تُفّاح … أربعة بألفين (العراق ومعادلة الجَمَل) ــ د. مصطفى مهدي حسين

0
341

تُفّاح … أربعة بألفين (العراق ومعادلة الجَمَل)

*********************

  هو صوتٌ أجهدَ صاحبه، ونداءٌ مبحوحٌ يطرقُ أسماعي بوجعٍ لَمَّا ينقطع: (تُفاح .. أربعة بألفين) .. صوتٌ أورَثَ اللهاثَ فيمن يَلْهجُ بهِ من دون انقطاع. صوتٌ آلمني لكَثرةِ تَكرراهِ، فكنتُ أحسبُ أنَّ كَبدَ المُنادي سَيَتَفَتَتُ من كَثرةِ النِداءِ والصِياح والترويجِ لِبِضاعتهِ. فقررت ان اشتري التفاح هذا ولم أكن بحاجة له، علّي أضيفُ دراهماً قليلةً إلى جيب البائع فيفرحَ قليه ويثقلُ جيبه. وبالفعل فعلت. ولم يورثني هذا سعادة، أو ربما فرحة، لأنّي وجدتُ منفذاً لبضاعةِ هذا الشاب، الذي الفيته شاحبَ البشرةِ، مُرْتَجِفََ الأوصالِ في هذا اليوم الباردِ المُمْطرِ من أيام البصرة القليلة بهذه الصفة، لِغَلَبَةِ الجَفَافِ على مناخها، وهو الضيفُ المقيم. ولم يكن يقيه غير أسمالٍ بسيطةٍ ارتداها بُرْداً، ربما يتقي به جور المناخ، لأنَّ أثقالَ الحياة عليه أكبرُ بكثيرٍ مِمّا قد أستغفلُ نفسي، فأقنعها أنِّي جلبتُ لها رِضاً، بابتياعي بعضاً من تفاحه. انصرفتُ عربة البائع الشاب، وتكفَّلَ الأثير بحَملِ صوتهِ المُتْعَبٍ ( تفاح .. أربعة بألفين)، وهو يتضاءَل ويتلاشى كلما ابتعدت العَرَبَة أكثر فأكثر. وبقيت الخواطرُ تتواردُ في داخلي، وصورٌ لألوفِ الشبابِ العراقيين أمثاله، الذين يشكون البطالة، ويقضون اليوم بدقائقه وساعاته مفترشين الأرصفةَ، تضربُ بهم الشمسُ بسوطها اللاهب، ويثقل الأمر المارة بمساوماتهم الطويلة لكي يشتروا بعضا من سلعهم، وكساد السوق الذي يورثهم النكوص واليأس والمعد الخاوية. وإنَّك لتجد على خارطة هذا الوطن المثقل بالثروة الملايين من الشباب المثقلين بالعوز والحاجة والدينار الحلال، والمتخمين بالأحلام المقطعة الأجنحة، فلا تطير أبعد من أقدامهم والخطى المتعثرة وليس أمامنا نحن ممن نراهم ونسمع شكواهم وأنين أرواحهم المقيدة بسلاسلِ البَطالةِ وبأقفاصِ الحَاجةِ المُذِلَّة، إلا الشفقة عليهم والأماني وكلمة الله كريم – وأنعم بالله وتحضرني كلمات إحدى مقدمات كتب الكاتب اللبناني حبران خليل جبران التي تقول: لا تزول الشفقةُ من النَفسِ الإنسانيةِ حتى تَزولَ التَعاسةُ من الأرض. وكيف تزولُ التَعاسةُ من الأرضِ ونحن من يبذرُها ويحصدُها؟ لأنَّ الإنسانَ هو مَنْ يَستغِّلُ أخاهُ الإنسان. هذا حل جعلني أستحضرُ يوما من أيام نيسان من عام 2008 حينما كنتُ جالساً في مكتبي في عمادة كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة البصرة، حينما أعلمني مدير المكتب أنَّ شابّاً حضر هنا وقال : أنّي طالب الدكتور وأريدُ مقابلته. فطلبت منه أن يدخل، فلما رأيته عرفته بالحال أنه أحد طلبتي، فأجلستُهُ وسألت عن حاجته فقال وعيناه تنظر إلى الأسفل دكتور أريد تعيينا لأني سئمت البطالةَ، ومعانقة الرصيف، أجالس بسطتي لأكسِبَ مورد رزقي، نعم دكتور مللت من البرد والشمس والريح وهجمة الشرطة بين حين وآخر، وتقلب السوق. وقد مرَّ عليَّ منذُ تخرجي ثماني سنوات بدون تعيين. فصمتُّ قليلاً وحاصرني الأسى من كلِّ جانبي، لكبر الإحن وقصر اليد فقلت له ولدي لدينا فرص للتعيين المؤقت ولكن بمبلغ بسيط هو –وقتها-50 ألف دينار أي ما يعادل أكثر قليلاً من 48 دولارا شهريا فقال في الحال موافق ولو بفلس واحد وودعني على أن يعود لكنه لم يعدْ.
  ونحنُ في العراق نعيشُ مفارقة كبيرة جِدّاً؛ هي أنَّهُ البلد الثاني من حيث الاحتياطي النفطي في العالم، فالأرقام تشيرُ إلى أنَّ هذا الاحتياطي يبلغ 125 مليار برميل، فيما تشيرُ أرقامٌ أخرى إلى أنَّهُ يبلغ 143 مليار برميل، بل أنَّ بعضّ التقديرات تشيرُ إلى أنَّ هذا الرقمَ قد يرتفع إلى 150 مليار برميل. والشعب العراقي مذ اكتشاف النفط فيه في عام 1927، وتصديره تجارياً، يُعاني مُعادلة الجَمَل الشهيرة – وهي أنَّهُ مُحَمَّلٌ بالذهب وطعامهُ العاقول – والعاقولُ: هي نبتةٌ شوكيةٌ تعيش في الصحراء، وهي طعام الجمل المفضل. فكم من الشباب فاته قطارُ الزواج، ولم يستطع أن يكوِّن أسْرةً، وكم منهم لا يفوز بلباس يتمنّاه، أو طعامٍ يشتهيه، أو سلعةٍ يتشوَّق لكي يقتنيها. والنفوسُ كلُّ النفوسِ؛ سواسيةٌ بالحاجات والتطلعات، والرغبات واللذة والألم، والانكسار في حالة الحرمان. وعلى الرغم من كلِّ التنظيرِ الاقتصادي الذي طرحه الفكر الاقتصادي في العراق، ودبَّجَ التوصيات التقليدية في أدبيات التنمية الاقتصادية، والتي حفظناها عن ظهر قلب، والتي تؤكدُ على ضرورةِ استثمارِ حَصيلةِ الصادرات النفطية في إعادة هيكلة الاقتصاد لصالح التنويع، وتعزيز القطاعاتِ المنتجةَ للمزايا المترتبة على هذا التنويع، التي يمكنُ تلخيصها بخلق فرص العمل، وتنويع القاعدة الإنتاجية ورفع معدل النمو الاقتصادي في العراق واكتساب التكنولوجيا وتقليل الاعتماد على المورد النفطي، كموردٍ رَيعيّ ناضب، ومن ثم إبعاد العراق؛ ناتجاً وموازنةً ودخلاً ومُجتمعاً، عن هيمنة الاقتصاد العالمي ورهن مُستقبل البلد به. وتشير الأرقام في هذا المجال إلى أنَّ أفضل الأرقام المتحققة هو أنَّ الصناعة التحويلية لم تشكل في أحسن الظروف إلّا ما يتجاوز 10% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي في العراق، وهذا رقم غير واعد بإخراج العراق باتجاه التنويع ومعالجة مشاكلَ العراق الاقتصادية، وأهمها تحريره من رِبْقَةِ النفط، ومعالجة البطالة وتحقيق معدلات نمو عالية. وبقي للنفط حصة الأسد في تمويل الموازنة بأكثر من 95% لها، وتوليد الناتج بما يزيد عن 70%. كما أن التغيير السياسي في العراق الذي حصل بعد عام 2003 جاء بنظام سياسي واقتصادي فشل تماما في تغيير الصورة وكيف يحصل ذلك في ظلِّ إهمال الموازنات العراقية المتعمد، وعن سبق إصرار، لأهمِّ القطاعاتِ السلعية في التخصيص وهما قطاعا الزراعة والصناعة، إذ بلغت نسبة مخصصاتهما من الإجمالي أقل من 1% في بعض السنوات. من هنا وفي ضوء مجريات الأمور التي تكشفها البيانات المتعلقة بالموازنة والناتج، لا يمكننا تصَوّر سيناريو إيجابي للاقتصاد العراقي، ومعالجة مشكلاته العميقة ومنها البطالة وبطالة الشباب منها بخاصة. وتشير البيانات إلى أنَّ مشاركة الشباب في قوة العمل في العراق تشكل 36% من الإجمالي وتبلغ نسبة الذكور في قوة العمل الإجمالية منهم 11% للذكور فيما هي 8ر8 % للإناث هذا في حين تشكل بطالة الشباب في العراق 22% تتوزع بين الذكور بنسبة 18% والإناث 56 % وتكشف الأرقام مدى فداحة المشكلة وخطورتها إذا علمنا إنَّ الشباب فوق سنِّ 24 يشكلون 60% من السكان، لذلك نرى المشكلةَ واضحةً في التظاهرات الضخمة في العراق، وعمادها الشباب العاطل عن العملِ، في كلِّ مرَّة تندلعُ فيها في المُدنِ العراقية.
ومن المفارقات الكبرى والمستفزة ولا يمكن السكوت عنها إطلاقا هذا الاستهتار في تحديد الرواتب للوزراء وأعضاء مجلس النواب في العراق وتخصيصات الرئاسات الثلاث في العراق. ففي الوقت الذي يئن الشباب من خريجين وغيرهم تحت وطأة البطالة والحاجة والفقر والحرمان نجد أن أعضاء البرلمان يحددون لأنفسهم رواتب خارجة حتى عن نطاق القبول الأخلاقي لها، فهي ليست رواتب بل سرقة مشرعة من بينهم، وكذلك راتب الوزير والرئيس ونوابه. فيمكننا تشغيل100 خريج براتب يبلغ نصف مليون دينار عراقي براتبِ نائبٍ واحدٍ من أعضاء مجلس النواب. أما إذا استثمرنا مخصصات الرئاسات الثلاث لتشغيل الشباب العاطلين، فإنَّ هذا الأمرَ سيفتحُ أبواباً واسعةً للشبابِ العاطلِ الحالمِ بفرصةِ عمل.
  من هنا فالعراق يحتاج إلى إصلاح سياسي واقتصادي شامل وصارم، منها إعادة واقعية وصادقة وجذرية لهيكلة الرواتب للقضاء على الامتيازات الإمبراطورية للنواب والوزراء، وحصر الرواتب للجميع براتب واحد، ومحاربة الفساد المالي والإداري، والمباشرة بسياسات استثمارية تنويعية للاقتصاد العراقي فليس الان أما العراق عليه مواجهة مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية ضخمة الا تعزيز النمو لامتصاص البطالة التي تعدُّ أهمُّ المعاول المدمرة للمجتمع والاقتصاد.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here