كثيرات هن الشاعرات والشعراء الذين نظموا شعرا وأنشدوا قصائد بالأمازيغية في سنوات القرن الماضي، لكن، وللأسف، لم نقرأ لهم شيئا ولم نطلع على هذه المتون، التي كانت، ولا بد ستكون، ممتعة لقارئ اليوم، الشغوف بكل ما هو عريق وعتيق، لاستخلاص العبر واستكناه الحكم واستجلاء القيم.
لكن، وفي الوقت نفسه، هناك من الشعراء من حالفهم الحظ، والتقوا، بمحض الصدفة، بمن يحفظ شعرهم ويصونه ويجمعه في دفتي كتاب، ليكون شاهدا على مرحلة وحقبة زمنية خلت، بآمالها وآلامها، بانتصاراتها وهزائمها، بنهضتها وانحطاطها، كما هو الحال مع الشاعرة الأمازيغية مريريدة نايت عتيق، التي ظلت مجهولة، باستثناء النزر القليل من المهتمين والباحثين بالشعر الأمازيغي، الذين سمعوا بها من أفواه المعمرين، محاولين إماطة اللثام عنها، وأسهموا في التعريف بها، حتى تتاح فرصة سبر أغوار حياتها والتوغل في مضامين شعرها ومجمل تفاصيل معيشتها.
لقد شاءت الأقدار ألا تظل الشاعرة مريريدة نسيا منسيا، إذ أرسلت “المكاتب”، بالتعبير الدارج، لها معلما فرنسيا في ثلاثينيات القرن الماضي يدعى روني أولوج، جمع شعرها في كتاب وحفظه للأجيال المتعاقبة؛ وبما أن هذا الكتاب يعد من الدرر النادرة ومن المصادر القليلة التي تؤرخ لفترة زمنية لها ما لها وعليها ما عليها، انبرى الروائي والكاتب المغربي عبد الكريم جويطي إلى تجشم عناء إعداد ترجمة وتقديم لكتاب “روني أولوج” سنة 2015 بعنوان: “مريريدة نايت عتيق.. “أغاني تاساوت”.. قصائد من الشعر الشفوي الأمازيغي، قصد تقريبها للقارئ المغربي؛ وهو مرجع مهم يمكن العودة إليه لمعرفة حياة الشاعرة بتفاصيل أدق.
كيف التقى إذن ألوج بمريريدة؟ يجيب جويطي في ترجمته بأن “المعلم الفرنسي الذي عين بدمنات التقى صدفة بامرأة استثنائية بماخور في أزيلال سنة 1932″، ويقصد هنا مريريدة، ولو لم تكن بالفعل فريدة من نوعها، بعد تعلمه الأمازيغية، لما أصبح في ما بعد مريدا لها وأداة طيعة في يدها، لافتتانه بها وجمع أشعارها التي وصفها بـ”فن خشن..بسيط.. بربري.. متوحش..”؛ واصفا مريريدة أيضا بأنها “مهما شمخت فهي ليست سوى سافو أمازيغية أو أماريليس، أي ظل ونسخة لأصل أقوى وأعظم”.
ومضى جويطي متحدثا عن وادي تاساوت الذي كان فضاء لمريريدة لنظم الشعر المغنى، قائلا: “وادي تساوت لم يكن معزولا كما يظن البعض، بل شهد حركة تجارية تربط بين دمنات وواحات دادس (…) الناس لا يتبادلون البضائع فقط، بل يتبادلون معها الأفكار والقيم والتمثلات، حيثما هناك تجارة هناك تلاقح حضاري. إن الوادي يوجد في مجال نفوذ مراكش الإداري والتجاري، وهناك إشارة إلى صلة أهله بتلك العاصمة النافذة. وفي نصوص كثيرة هناك ذكر للعطارين، أي التجار المتنقلين ببضائعهم بين القرى، وذكر للفقهاء (الطلبة)، وخصوصا فقهاء سوس الذين يشتهرون لدى العامة بأعمالهم السحرية. هؤلاء الفقهاء كانوا يؤمّون صلاة الناس ويعلمون الصبيان في الكتاب ويوثقون صلة الناس المنعزلين بتعاليم الإسلام”.
وأردف جويطي قائلا عن الوادي: “وادي تاساوت فضاء أمومي بامتياز؛ بمطره وعيونه وقممه وأشجاره المقدسة وطيوره، تأنيث سخي متناثر هنا وهناك حتى في عناوين القصائد نفسها (عائشة، مليكة، الرحالية، إيزا، مريريدة، طبيبتة، أزو، أختاه، حبيبة، إيطو، الخاطبة…). وادي تاساوت رحم كبير وجنة قاسية لا يجني الخارج والمبتعد عنها إلا المرارة والفجيعة. وادي تاساوت غواية قاتلة ولا فكاك منها. الوادي كتاب مفتوح ومليء بالإشارات والرسائل والمواعظ. والجدود لم يرحلوا كلية، إنهم هناك في صمت الأحجار، في بذخ الحكايات والمأثورات، وفي صرامة الأعراف، وحتى في متاهات المسارب التي نحتتها حوافر البغال ووقع النعال”.
ولتبيان نباهة مريريدة أثناء إلقاء الشعر وتجنبها الوقوع في الرتابة، قال مؤلف رواية “المغاربة”: “حين كان رونيه أولوج يدون قصائد مريريدة، كان يلاحظ أنها لا تكرر القصيدة الواحدة دون أن تغير فيها، فكل إنشاد جديد للقصيدة هو حالة فريدة لا تتكرر. لذا تتصرف فيها حسب مقتضيات أحوالها ومزاجها”.
ومن الأوصاف التي قدمها جويطي لمريريدة أنها شهرزاد أمازيغية خطفت قلب أولوج مثلما أخذ جسدها؛ “لقاء حميمي عابر تحول إلى لحظة أدبية راقية ودائمة، وحولت عتمة الماخور وفاقته وعريه وبرودته إلى نور وغنى لا ينضبان..التقاها خفيفا مرحا لا يثقله إحساس بالذنب تجاه هؤلاء البسطاء الذين قتلوا وروعوا ودمرت حياتهم وبنياتهم الاجتماعية والاقتصادية وقذفوا في لجج حداثة عنيفة ومتكبرة، لا ترضى إلا أن تسحلهم على الأرض وهم يقتفون خطواتها الجبارة.. التقاها وهو لا يعي حجم الفظاعات التي ارتكبت في حق أهلها وواديها والمهانة التي تعرضوا لها.. وما تواجدها في ماخور بأزيلال إلا صورة ناطقة على هذا الإذلال.. وتمكنت بقوة شعرها، تلك القوة المستخرجة من ثقافتها والمشابهة لقوة الجوع، على حد تعبير أرتو، من أن تجعل منه مريدا ومتعلما في حضرتها، بل جعلت منه مجرد ناسخ لأناشيدها”.
وهكذا، يضيف الروائي نفسه، “كان الشرف الوحيد والأبقى، الذي كان يمنح مريريدة اعتداد إلهة إغريقية حين تنتصب لإنشاد أشعارها في بؤس وسط العنف المادي والرمزي والإهانة، هو شرف الكلمة؛ لقد جسدت كما حدث مرارا في كليشيهات المرحلة الكولونيالية صورة “البدائي” البسيط الممتلك لحكمة فطرية صقلتها وراكمتها السنون إزاء الأوروبي المنتمي إلى حضارة متفوقة لكنها مادية وبدون روح”.
ولأن الشعر لم يكن يعني شيئا للدهماء من العشاق ممن يقصدونها طمعا في جسدها فقط وإرضاء لنزواتهم، يوضح جويطي قائلا: “كانت مريريدة في أزيلال مجتثة وغريبة، وكان شعرها لا يعني شيئا للعشاق السيئين، كما وصفتهم، والذين يرتوون كالبغال ويروحون لحال سبيلهم حتى شهوة قادمة..هذا المنطق الذي جعل منها “امرأة لكل الرجال”، حيث الشقاء اليومي الكبير لتقديم الجسد مقابل اللقمة، دفعها لأن ترحل بعيدا تاركة أسئلة كثيرة ومعلقة وراءها”.
وأبرز الروائي المغربي أن “هذا الاختفاء الغامض في الحكاية التي قدمها أولوج عن مريريدة كان فرصة للبعض للادعاء بأنها لم توجد أبدا، وهي من صنع خيال أولوج، وأنه جمع من خلالها ما سمعه من شعر شفوي متفرق في الأطلس الكبير”.
لم تقتصر قصائد مريريدة على كل ما هو عاطفي ورومانسي فقط، بل نظمت أيضا شعرا له صلة بواقع الحال في مناطق الأطلس الكبير بعد الاستعمار الفرنسي للمغرب، وفي هذا يقول جويطي: “لم تنشغل قصائد مريريدة نايت عتيق باستعراض صدمة أهلها إزاء الدخول الدامي للمستعمر الفرنسي، ولم تترك للتاريخ بأهواله الجسام سوى حيز صغير لكنه مثقل بالدلالات، حتى إنه يشكل الخلفية العميقة لمعظم القصائد التي نرى من خلالها الجريمة ولا نرى المجرم إلا في ما خلفه وراءه من أدلة جنائية. لقد أمسكت الآلة الرهيبة للمستعمر بتلابيب الوادي الصغير وقذفت به في العالم الكبير، فصار أهله الذين لم يكونوا يتجاوزون المراعي والأسواق في تحركاتهم يثخنون بعيدا، بعيدا جدا.. يقطعون بحارا ويشاركون في حروب في آخر الدنيا وينخرطون في الرحى الرهيبة للتقدم، تاركين للأمهات وللشيوخ وللصبايا في سن الزواج ألم الفراق وفراغ الهجر”.
لعل ما يميز مريريدة، كذلك، أنها لا تضاهي بقية من يبعن لحمهن بثمن بخس مكرهات ومرغمات ضمانا لقوت اليوم، بل ترفع من قيمة ذاتها وتعلي من شأن جسدها؛ إلى ذلك يردف جويطي: “حظيت رؤية مريريدة لمهنتها وجسدها باهتمام زائد لدى القلة الذين انتبهوا للشاعرة؛ وذهب بعضهم، وفي إسقاط لما يعتمل حاليا من حراك يخص المسألة النسائية، إلى اعتبارها متمردة، ومثالا للمرأة المعتدة بجسدها وبذاتها والثائرة على الأعراف الاجتماعية، وعلى كل ما يبقي المرأة رازحة تحت سلطة ذكورية فجة”.
وتابع الروائي قائلا: “الجنس والحب لدى مريريدة نداء للطبيعة داخل الكائن. ومثلما ينقاد المدق لرغبته الصماء ويهوي نحو الهاون، ومثلما تعشق المطرقة السندان، فإن عضوي كل من الذكر والأنثى يهفوان لبعضهما في عدالة طبيعية، تجعل منهما في نهاية العملية الجنسية بريئي الذمة تجاه بعضهما”.
عظمة الجنس وتفاهته، في الآن نفسه، بالنسبة لمريريدة، وفق جويطي، هو أنه “وليد اللحظة الكثيفة والنورانية التي تقدح شررا ترسله العين إلى القلب مباشرة. فهل نمنع نحلة من ارتشاف رحيق زهرة يتضوع عطرها؟ لكن هذه اللحظة عابرة ويعقبها دوما حساب اجتماعي عسير، إذ لا تخلو اللقاءات الجنسية من تبعات فادحة؛ مثل الحمل والإحساس بالعار وتقديم موضوع أثير للفضوليين والمتلصصين والنمامين. الدعارة طريق محفوف بالأسى والوعود الخائبة والمهانة اليومية. لذا، فمريريدة تنصح راعيات واديها بألا يخرجن منه، وألا يفرطن في تلك الحياة البسيطة والمأمونة والبهيجة بسراب حياة لن تمنحهن إلا التعاسة. فنحن لا نعرف قيمة شيء إلا حين نفقده”.
واعتبر جويطي أن البسمة والخديعة هما سلاح المرأة عند مريريدة، وبهما قادرة على ترويض الرجل والسيطرة عليه. كما أن الرجل في “أغاني تاساوت” طفل أناني، “يريد كل شيء له وحده، طفل يحب بسرعة وينسى بسرعة ليحب أخرى، بينما تبقى المرأة كجذع شجرة في غابة محترقة ثابتة متفجعة تجتر مرارة الحب الضائع”.
ولأن مريريدة كغيرها من بني جنسها دائما ما يشتكين من بقية النساء أكثر من الرجال رغم أنانيتهم، أوضح جويطي أن مريريدة لا تكترث لجشع الرجل وأنانيته، بقدر ما تندد بقساوة النساء إزاء بعضهن البعض. “فوراء كل مأساة هناك تدبير خبيث أو سحر أو عين شريرة لامرأة أخرى، ووراء كل قلب ممزق امرأة، ووراء كل فجيعة هناك امرأة أخرى. أسلحة المرأة هي المكر والغواية والنميمة والتلصص. ولتعاسة المرأة، فإن هذه الأسلحة توجه بالأساس ضد نساء أخريات. تفهم المرأة المرأة، تتمكن الأم والجدة دوما من أن تقرأ ما يعتمل في قلب ابنتهما، وكل مناورات وتصنع المرأة قد تخفى عن الرجل لكن المرأة لا تنطلي عليها. تعلم السر وأخفى. المرأة فضاحة، حريصة، متنبهة، ولا شيء يفلت منها”.
الإنسان في نظر مريريدة قشة في يد الزمن، يتابع جويطي، إنه إنجاز للزمن، “الزمن الذي يطمر أفضل من الأحجار، الزمن الذي يغسل القلوب ويلملم الجراح، الزمن الذي يفرق متى شاء ويجمع متى شاء، الزمن الذي يتوزع بين “ماض كالدخان ومستقبل كالغمام”، ولا يترك للإنسان في الواقع إلا اللحظة التي هو فيها. لذا عليه ألا يفسدها بالمخاوف، وعليه أن يستمتع بها ويستنفدها كلية في ضرب من الأبيقورية الفرحة والمتصالحة مع الرغبات الطبيعية والضرورية”.