رصاص حواء مجرد حروف من طين قلبها إلا أنه يتلون بحالة وجدانها، حبا، عتابا، شوقا، رغبة، ألما، حزنا.. أو حالات تود فيها شرح حالها أو لفت انتباه الحبيب إليها. إن غضبت من آدم فلأنها تريده أقرب، وإن ثارت في وجهه فلأنها يئست من رضاه عنها. دلالها حب زائد، وتمنعها عين رغبتها. المرأة بفطرتها تدرك أن حب آدم لها معجون بالشهوة، لكن الشهوة وحدها لا تعني الحب أبدا. لذا تأنف المرأة من تعامل آدمها معها بمحض الرغبة فقط وكأنما هي مجرد فاكهة لا غير. رغبتها بآدم لن تكون إلا عن حب، لكن الحب عنده في كثير من الأحيان والأحوال ترف والشهوة هي لب كيانه. كثيرة هي الفوارق النفسية بين الرجل والمرأة أو بالأحرى بين آدم وحواء، الذكر والأنثى. هي تود الاستبداد بكله حبا وعشقا وهو لا يثبت في عشقه لواحدة أبدا أيا كانت رغم أنه قد يثبت على حب امرأة عمره كله ولا يرضى عنها بديلا، إذ يتحول هذا الترف في مرحلة من مراحل حياته إلى ضرورة. حواء لا تدرك فيه إلا الشق الأول. لا تدرك أنه قد يحبها هي، وربما يقدسها. لكن عشقه متقلب بين أطياف النساء كلهن. وقد عبرت “أنا” عن طبيعة الأنثى وخصوصية مشاعرها وغضبها من الأوادم بعامة وثورتها عليهم إذ قلت:
أوادم هذه الدنيا
لكم كل حواء مشروع
حب لكنما
أنا لي من بينكم آدمي الوحيد
هو في القلب ساكن
منذ الأزل
عن حبه قلبي لن يحيد
اسمه مكتوب بأحرف من نور
فوق ملامحي
تقرأ من قريب ومن بعيد
سلام دائم مابيننا إذ
أسكنته الذهن العنيد
آوادم هذه الدنيا
لكم أهواؤكم
ولي أنا هذا اللب الرشيد..
هكذا تود المرأة أن تكون حياتها مستقرة مع آدم واحد تراه الدنيا كلها وهي جزء منه، تتمة له، حضنه وطن، واحتواؤه لها أساس علاقتهما، ولا تتصور عنه انفصالا أو معها فيه شريكة.
نعم شاعرنا هناك حرب معلنة وصريحة بين آدم وحواء، أزلية دائمة كأنما كتب عليهما خوضها كما غيرها من الحروب، لكنها في كثير من الأحيان مجرد وساوس وشهوات وظنون وكثير منها محض هلوسات تستبد بهما. وقد صورتها أنت بقصيدتك الرائعة هذه أجمل تصوير لكنك حولتها من حرب “عدائية” كما قد تبدو أحيانا إلى حرب من أجل نيل الرضا. حرب من أجل الفوز بقلب كل منهما بقلب الآخر. هي تمطره بسهامها تغريه، وهو الذي يتودد إليها بعتاب يشهد على حسن نواياه. وما انتصارها عليه وهزيمته أمامها إلا بسبب حبه لها ورغبته بها، لذا يطلب منها أن تترفق به ولا تزيد معاناته.
هي حرب، تدار كما كل حرب، لها أسلحتها وخططها واستراتيجياتها، وحواء هي الغازية وهي المنتصرة دوما فما من حاجة لأن تعلن هذا الإنتصار. فحبها مستحكم في قلب آدم منذ الأزل وإلى الأبد لا غناء له عنها. حرب تشنها حواء على آدم وآدم لا يرفع في وجهها إلا سيف العتاب على حرب لا لزوم لها، سيف غمده حنين إلى احتضانها له، ولا أرى هذا السيف إلا قصيدة تحمل في كلماتها والعبارات حب الشاعر لحواء، وكلمات القصيدة وعباراتها تلك الورود التي تهفو إليها. كناية عن رغبته باحتوائها له.
هذا النصر الذي تحرزه حواء على آدم نصر له أيضا إذ يبعث فيه الأمل مؤكدا حبها له، وإلا لما شنت عليه هكذا حرب. ولذا نجد الشاعر وعلى لسان آدم يتودد إليها ويطلب منها أن تتلطف به، فطالما هي تحبه فلم تزيد جراحاته وتضاعفها إذ يخطو إليها بقلب سليم كل مراده عودة إلى بئر الحنين؟ أصل الفطرة فيه وفيها، تلك الفطرة التي يحاول إحياءها أو أقله ترطيبها بعد جفاف مسها بفعل مرور سنين دون ارتواء، سنين كانت خطاها صعبة الوطء على نفسه، لذا يطلب من حواء أن تترفق به ولا تضاعف الأشواك بتجريحها فيتضاعف عددها وتتضاعف جراحات فؤاده وهو الذي كل مناه والرجاء جرعة ترويه من نهر حبها الدافق المقدس، كقدسية نهر الأردن الذي تعمد في جنباته المسيح ليصبح مسلكا للنور والطهارة والنقاء. النهر الذي التقت في البحيرة الرافدة له ثلاثة أنهر لتمده بمائه ويسير مختالا بين ضفتيه إلى مصبه معينا، متدفقا حتى يصب في البحر الميت نهاية كل حي. فكأنما يدرك آدم أن نهايته بين يدي حواء كما بعث فؤاده وقلبه. حواء نهر الحب الجارف الذي ترفده ثلاث كيانات هي الروح والفؤاد والجسد، ليكتمل تدفق حبها حتى آخر رشفة وآخر نبضة قلب.
عيناك أنت ضفافه وغريقه
هذا الذي قد مسه اللحظ المبين
شفة الرمال بعتبه الماء انمحت
كلماتها فتقاسمت حرفا دفين
تشبيهات بلاغية تعبر بنا إلى صورة جمالية ترتقي بالذوق حيث لا حدود إلا السعة الممتدة ما بين فؤادين عاشقين يريان الجمال في عشقهما، هي النهر الدافق بالحب يفيض عليه، يدعوه حتى الغرق ولا منجاة إلا باحتضانها له فما أن أصابته سهام نظراتها حتى خر صريع هواها، عندها لا يعود للكلام معنى فقد حضر فيهما ما يسمو على الكلمات فلا تكفيه. فالكلمات مهما كانت دقيقة واضحة إلا أنها كما تضاريس صحراء يتوه المار خلالها أو كما رصاصة تنطلق دون تحديد هدف وتصويب دقيق. فمن طبيعة الكلام التأويل، والتأويل مذاهب شتى حيث يصعب الجزم بمعنى محدد، عندها لا يقين غير اليقين، وأقصد هذا اللقاء الحقيقي بين آدم وحواء الذي لا يغني عنه كلام الأولين ولا الآخرين ولا قصائد الشعراء أنفسهم، فما حاجة العشاق إلى كلمات حدودها أن تبقى مجرد كلمات، طلاسم قد لا توصل المعنى المراد بذاته، دورها أن تحرك المشاعر تهيجها تحييها، تبعث الإحساس الميت من لحده لكنها لا تشفي الغليل، ويبقى سؤال المدله بالحب المندهش بما يحدث قائما، لم يحدث هذا الوأد للحب! فيقرر آدم “هذا” أن يخلع عنه الغضب ويترك البكاء الذي لا طائل منه وليجعل القلب هو الطارق لبابها وهو ذاته السبيل الذي سيوصله إليها، فهي تفاحة منفاه كما كانت حواء تفاحة آدم من الجنة، لحظة حبه لها هي ذاتها لحظة ميلاده النفيس، وهي أي حواء وعشقه لها خطاياه كلها التي يحاول سترها، لكنها نزفت منه رغما عنه، واستوت في قصائده، وكما علم آدم الأسماء كلها كذلك آدم هذا لكنه نسي كيف يتيقن أو يثبت أدلة حبه ويعيش هذا الحب كما يود ويرجو. والحل لكل هذه الإشكاليات بسيط جدا أبسط مما يتصورها البشر، فما على آدم إلا أن يخلع عن ذاته صفة كونه غريما للمرأة أو أن المرأة غريمة له، فما الإشكالية سوى إشكالية فكرية لا واقعية، وما هي إلا تمسك باعتقاد خاطئ، بهذا يدخل آدم جنة حواء آمنا إذ يكون أمينا عليها.
نلاحظ هنا إعادة تقييم لهذا الصراع الأزلي بين آدم وحواء من أجل مصالحة يعترف فيها آدم هذا بأن أس الصراع نظرة الريبة والشك المتبادلة بين طرفي الصراع..