المشي بالمفرد – صالح لبريني

0
415

قبل حلول الضيف كورونا، كنتُ كثير الملل والسأم من عالم موبوء بالجلبة، عالم شائن ومثير للتقزّز، حيث الأصوات تعلو فوق كل شيء، زعيق السيارات والحافلات، وضجيج الدراجات النارية، والصخب المنتشر هنا وهناك بفعل آدمي، والشوارع تفيض بالحياة، الجمال يترنّح في جلاله، والأحذية تؤرخ لعبور الأجساد والأنفاس، والنظرات المبثوثة على شاشة العيون ترنو إلى المستقبل، وأعمدة الكهرباء تشهد على مدن تبيت غافية عن روحها، غارقة في معانقة المستحيل، والشرفات المضاءة بالحيوية والأصص الفواحة بعطر الحياة، والحدائق الغاصة بديمومة العشاق والهاربين من ضيق المجال، والسكارى والحيارى والمتسولين والعاطلين عن الحب وعن العمل، والفارغي الجيوب وعيون السلطة المستيقظة حتى وهي نائمة على أسرّتها المهترئة، والأرصفة التي كانت تجنّ على ضياعك، وأحلامك وتأوهاتك، والحافظة خطواتك السريعة صوب منفاك، الكل ما زال هناك يلتحف وحدته، وحشته، حزينة تعض أصابع الفقدان.
تغيّرت الأشياء، والأمكنة مطوّقة بسيارات الشرطة العلنية والسرّية والعسكر والمشاة والفضوليين الذين لا يشعرون بالراحة إلا عندما يجدون أنوفهم حاضرة في كل شيء، كل مدن العالم باردة وميتة، حركتها معاقة، الموت يعمّ الأفق، لا حياة على الكرة الأرضية، الفرح غدا نادرا في البيوت وداخل الأنفس، حالة من الاكتئاب تنشر جوانحها على القلوب، لا أحد يلتفت إلا لروحك، وكل واحد منا يجابه مصيره وحيدا بلا سند إلا ما يحمله من طاقة للمواجهة المحتومة، انتفت شروط مظاهر الوجود، أمام الوباء تقف الذات عاجزة عن السير قدما، لمناوشة المجهول ومطاردة الخيال، الكل مكبّل بقوة كائن لا يرى، يسكن الأرض ولا يقيم في السماء، يتربص بنا في كل نأمة من شعورنا، العالم في عمى وجودي.
العمى يسري بدون حاجة إلى أخذ الإذن، يصول شاهرا سيف الموت في وجه البشرية، معلنا قدومه من أقصى الكرة الأرضية، خارقا المسافات، حين حلّ لم يطرق الأبواب، ولم يطلب استئذانا من حاكم ولا محكوم، بل تسلل خفية إلى البروج المحصنة والبيوت الواطئة بلغة محمد زفزاف، في الأحياء الخلفية، لم يمتطِ بارجة حربية أو دبابة أو طائرة من النوع الرفيع، أو سفينة عملاقة بقدرٍ سقط فجأة من حيث لا تدري الإنسانية قاطبة، ليتجول هنا وهناك، ولا يميز الهويات ولا العقائد.
وبعد أن حلّ الضيف تبدّلت العادات وأغلقت المقاهي والحانات، وساد البوار والكساد الأرض والسماء، وعمّت الفوضى في كل الأركان، وزادت حيرة الإنسان، وأنت وحدك اخترت المشي بمفردك، لا عبْر الشوارع أو وسائل النقل، ولا مع الأصدقاء، وإنما شرعتَ في اختيار عزلة مفروضة، لتروّض كيانك على المشي داخل حيّز محدود، حتى لا تنسى مشيتك، وتنقلب عليك قدماك، وتغدو مشلول الحركة.
المشي بالمفرد لا يدركه إلا من كان مؤمنا بعزلة العالم، والسفر إلى المناطق المبهمة من الذات والغامضة من العالم.
وكل مشي لا يفرد لا يعوّل عليه!!

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here