لماذا يحارب السياسي “المتسلطن” المثقف عامة والأديب الشاعر خاصة؟ لماذا يجعله هدفا للتعذيب والتنكيل، فإن لم يطله فالإهمال والتعتيم ومحاولات الإقصاء والإبعاد والتشويش على أي صورة مشرقة من صور نتاج هذا المثقف أو ذاك، هذه النوادي الثقافية أو تلك؟! ولا عجب إن أدركنا السبب، ذلك أن تاريخنا وحاضرنا يفيض بصور التسلط المباشر وغير المباشر على المثقف ومحاولات تقييده، فإن لم يفلح السياسي في جرّ المثقف إلى ساقيته ليصبح ثورا يدور في فلكها، فليسقط فيها فيريح ويستريح!
في برنامج مساء الخير بروكسل الذي يقدمه الإعلامي القدير “منصف بلقرشي”على قناة مغرب TV البلجيكية، الذي استضاف في حلقة من حلقاته الأديب الشاعر الإعلامي “أحمد حضراوي” ليحاوره عن الوضع الثقافي المهجري الراهن، والتسويقات التي تتعمدها الهيآت المغربية الرسمية، الخارجة عن اهتمامات الجالية وتطلعاتها، أثيرت مجموعة من القضايا التي تكبّل الفعل الثقافي وتمنع ازدهاره وانتشاره ليس بحجب التمويل عنه فقط ولكن بدعم البديل المقابل له تمام المقابلة.
اتسمت الحلقة بعمق تحليل الوضع الثقافي الراهن بكل أبعاده، والتوصيف الموضوعي لما يحدث بالضبط دون زيادة أو نقصان. شاعر مثقف ومفكر يتعمق فيما يدور حوله، يحمل هموم ثقافته الأصيلة من لغة وقيم إنسانية تجعله يرتقي فوق الفروقات التي تتمسك بها فئات معينة، والمصالح التي يسعى البعض لتحصيلها بكل ما أوتي من دهاء.
شجاعة يغبطان عليها: مقدم البرنامج -الإنسان الحرّ- الذي يحسن إدارة الحوار ويشارك فيه بفاعلية المثقف الواعي المدرك لكل دقائق ما يحدث في مجتمعه المحلي، الوطني والعالمي. وأديب غير هيّاب يقتحم حصون الساسة الذين يتحكمون بمقدرات المواطنين سواء داخل الوطن أو خارجه.
حجر الزاوية في هذه الحلقة، أو لنقل المحور الرئيس أو الأساس الذي بنيت عليه يتلخص في “كلمة” لم يقلها أي من المتحاورين لكنها كانت حاضرة بقوة كما الشمس الساطعة في سماء لا غيم فيها: إنها “الحرب”، حرب دون السلاح المتعارف عليه في القتال، حرب يشنها من بيده مقاليد مقدرات الوطن على من لا حيلة له في الوصول إلى هذه المقدرات وهو يستحق شيئا منها كي يستمر عطاؤه ويتعاظم، ولكن كيف يمد ذلك المتنفذ يده بالخير إلى من إن قويت شوكته سيفضح عيوبه، إلى من سيؤدي وهج نوره إلى كشف سوآته الذاتية، العقلية والنفسية والأدائية. إلى من إن استوى قائما كمثال يحتذى به سقطت كل الدمى وتهاوت تحت قدميه.
وكما قال شاعرنا أحمد حضراوي: المثقف الحقيقي خطر على مثل أولئك الساسة لأنه سيكشف زيفهم وزيف من يدور في فلكهم، يظهر عيوبهم ليس بالحديث عنها فقط، ولكن من خلال بناء وعي راق ومتطور وعميق في نفوس أفراد المجتمع ككل.
من المعروف بل من المؤكد أن هناك متطفلين في كل مجال من مجالات الإبداع يقتاتون على هوامش حياة المبدعين وإبداعاتهم ليس لسبب إلا لافتقارهم لمثل هذا الإبداع أو خدمة لأجندات غير سويّة أو لملء نقص يجدونه في أنفسهم. هؤلاء هم الغبار الكثيف الذي يحاول السياسي أن يلجأ إليهم ليغطي به سوآته الثقافية والإنسانية من جهة، وليغبّر أجواء المثقفين الجديرين بالثقة الحقة. وما هم في حقيقة الأمر إلا الدخان الناتج عن احتراق قلوب أعداء النجاح. مهما رُفعوا على الأكف سيسقطون بسقوط ساداتهم أو بانتهاء أدوارهم البذيئة، أو بانقطاع الدعم عنهم. بينما نجد في مقابل ذلك من ينفق كل مدخراته لرفع شأن الثقافة والفكر والإبداع بكل الأنواع، طالما هي تخدم إنسانية الإنسان وترتقي به في مدارج الكمال بقدرات بشرية. حتى أنه يضحي براحته ويعمل بكل طاقاته ولا يألو جهدا في نصرة كل من يعمل في هذا المجال.
المقهى الأدبي الأوروعربي في بروكسل والذي أسسه الأديب الشاعر أحمد حضراوي وهو القيوم عليه، لم يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء رغم قلة الموارد وامتناع الجهات الرسمية عن دعمه ماديا أو معنويا، بل نجده وقد اتسعت اهتماماته بالشعر والفنون الراقية وتعدّتها إلى الفكر الجاد السياسي والفلسفي، حتى أصبح هذا المقهى منتدى لكافة ما يمكن أن تضمه كلمة الثقافة عامة. وليصبح منتدىً عربيا بامتياز، إذ فتحه صاحبه أمام جميع الجنسيات العربية في المهجر، وللمفكرين والأدباء من مختلف الدول الأوروبية من يكتبون بالعربية أو بغيرها. وبعد أن كان هذا المقهى الأدبي محصورا بالمغتربين من المغاربة في بلجيكا ها هو قد رُفد بطاقات فاعلة وقامات باسقة من كثير من الدول الأوربية من المغتربين، فشكلوا وحدة عضوية واحدة يمكنها الصمود في وجه كل المحاولات المغرضة. إن منتدى كهذا يستحق الدعم من كل من يقدّر الإنسان كإنسان، ويقدر نتاج عقله ووجدانه، ويرغب بأن يرتشف كأسا من متعة فكرية وفنية راقية. ويجد في هذه الثقافة ذاته كما يتمنى أن تكون.