كاتب مصري مقيم ببلجيكا
-رواية الفضيحة الإيطالية في حلقات-
إحساسي بالانتماء إلى كيان ما لا يتجاوز عدة ثوان هي المدة اللازمة لإغلاق باب مدخل العمارة خلفي وأنا متجه إلى الأسانسير. أفعل هذا يوميا بهدوء وحرص فور عبوري أسفل قوس اللمبات الصغير المطلية بالأخضر، والتي تضيء وتنطفىء في سلك حلزوني يتوج الباب الألوميتال. هناك أكثر من 40 عائلة موزعة على 16 طابقاً يغط أغلبها في نوم عميق الآن. صلة ما تربطني بهؤلاء الطيبين النائمين، فأغلق الباب جيداً في وجه الكلاب الضالة حرصاً على سلامة بشر لا أرى أحداً منهم في الليل أو النهار رغم مرور عامين على سكني ــــ بنظام الإيجار الجديد ــــ في هذه الأبراج التي تطل مباشرة على النيل. وإذا حدث وكان باب أحد الشقق المقابلة مفتوحاً أثناء خروجي من شقتي يُرد فوراً في وجهي. أما إذا حكمت الظروف وجمعنا القدر لحظة انتظار الأسانسير فيتركونني مهما كانوا مستعجلين لأركب بمفردي مفضلين الانتظار بأطفالهم وحقائبهم على الركوب معي.
فأنا في النهاية واحد أعزب!
أي أنني أمثل خطراً على الأمن الاجتماعي العام، خاصة حين يسكن هذا الأعزب وسط الأسر المحترمة حاملاً فيروس الانحلال ومهدداً عفة بنات الحسب والأصول.
وكم خدعتنا أفلام الستينيات..
ظلت تلح عليّ صورة العازب الوسيم القادم من الريف للعاصمة ليضبط إيقاعها الأنثوي بغمزة واحدة من عينه اليسرى حتى صدقَّنا، وحين وصلنا لم نجد صاحبة شقة من نوعية “زينات صدقي” تفرش لنا الأرض ورداً ورملاً، وإنما وجدنا مُلاكاً يسرقون الكحل من العين.
لا أشك مثقال ذرة أن عيونهم خالية الآن من أي تعبير، وأن هيئتهم وهم متحلقون حول التليفزيون تشبه إلى حد ما حيتان صغيرة طيبة لفظت أنفاسها على الشاطىء.
تلك حال الناس في بلادي حين يهل الشهر الفضيل.
تنقضي “ساعة ربك” وألسنتهم تلهج بذكر علام الغيوب هم الصائمون عن الطعام والشراب وممارسة الحب. وفي الدقائق القليلة التي تسبق آذان المغرب يحترمون الحق المقدس لسائق الميكروباص في “سب الدين” بسبب انسداد شرايين الطريق. أما “ساعة قلبك” فيقضونها في نسف ما لذ وطاب، ثم السفر عبر أثير برامج الإثارة بعد الإفطار.
ذهبت إلى ذلك المركز الثقافي الأجنبي لمشاهدة فيلم أوروبي هرباً من الحصار الأمريكي لجميع دور العرض السينمائي المحلية، فلم أجد غير لسعة خفيفة في تلك الليلة الرمضانية الباردة.
عند المدخل المعتم قليلاً مكتب لا يجلس عليه أحد.
ترددت في الدخول.
ــــ أي خدمة؟
السؤال له نفس نبرة الاستعلاء والإحساس بالتفرد التي تميز العاملين المصريين في المراكز والسفارات الأجنبية بحي جاردن حين يتعاملون مع مصريين مثلهم. الجديد هذه المرة أن الموظف كان مشمراً عن ساقيه وذراعيه وقطرات ــــ من أثر الوضوء لابد ــــ تتساقط من شعره المبتل. تعلقت عيناي لا إرادياً بشبشب بلاستيك ماركة “زنوبة” يطرقع به على البلاط اللامع المصقول.
ــــ أي خدمة يا أستاذ؟
لم تعد النبرة متعالية فقط، بل غير ودودة أيضاً.
أردت أن أنصحه ــــ مخلصاً ــــ بأن يسوي شعر حاجبيه الكثيف المنكوش فهو في النهاية “واجهة” مركز ثقافي لدولة أقل ما توصف به أنها كعبة الموضة وقِبلة الحساسية والجمال.
لم أجرؤ.
أحسست أنني متطفل على جنة هدوءه، كأن الرجل في منزله وجئت أنا فجأة أقتحم خلوته، تكلمت أخيراً وإحساس حقيقي بالذنب بدأ يتلبسني.
رد بحسم:
ــــ فوت علينا بعد ساعة.
ــــ لكن الميعاد الساعة 6
ــــ الميعاد 7
ــــ مكتوب في الجدول أنه 6
ــــ هذه المواعيد خاصة بأيام الإفطار، نحن الآن في رمضان، نتأخر ساعة عن الأيام العادية.
أضاف بفخر:
ــــ أنا المسئول عن إعداد الجدول.
بالطبع لم أسأله: ولماذا لم ينوه حضرته بذلك في الجدول الشهري الخاص بأنشطة المركز.
في هذه اللحظة فقط انتبهت إلى وجودها: الجميلة ذات الشعر الأحمر، وعلى الفور انبثق نفس الإحساس القديم المراوغ الذي يراودني كلما ألقت الصدفة ببنت أوروبية ــــ حساسة ومختلفة فيما يبدو ــــ في طريقي.
لا.. ليست اللهفة الشرقية الذكورية المعتادة ولا وهم الرغبة ــــ من خلال النوم مع أوروبيات ــــ في استعادة فتوحات العرب القديمة لأوربا حين هددت جيوش البدو فرنسا ودقت جحافلُهم أسوار النمسا.
ولا حتى مجرد الرغبة الفضولية المشروعة في الاكتشاف والتواصل.
فقط أسى غامض يترقرق شفافاً داخل نقطة بعيدة بأعماقي..
في تلك الليلة، كان الشعور بالأسى مضاعفاً، ولا أعرف لماذا. كان شعرها الأحمر القصير ناعماً نعومة تستفز تلقائياً حاسة اللمس ليدك فتفرك أطراف أناملك بشكل غريزي. كانت تجلس ساقاً على ساق، ومع ذلك فإن لكبرياء قوامها الممشوق حضور طاغ لا يبدو منسجماً تماماً مع نعومة ملامح الوجه التي خطها الرحمن بمزاج رائق على صفحة بشرة تقع في المنطقة الفريدة بين شُقرة فتاة اسكندنافية وحمرة خد امرأة تركية.
كان الأسى قبضة من حنان.
إحساس باهظ بأن حزناً مطموراً داخل هاتيك المآقي الأجنبية يخصني.
أعرفه تماماً.
هي بنت الشمال..
وأنا ابن الجنوب..
وما بيننا ليس عواصف وأعاصير مظلمة تفصل بين ضفتي المتوسط، بل 1400 عاماً من سوء الفهم المتبادل، تحديداً منذ أن شق رجل في الأربعين يرعى الغنم جبهة الصحراء بسيف من نور، فتنفس عبيد الجزيرة العربية هواء الحرية.
صاروا سادة يرفلون في ثياب بيض.
وجرت في النهر سنوات كثيرة..
أصبحوا محاربين أشداء تسد قواتهم عين الشمس، وتتلاقى أرواحهم على فكرة واحدة ألفت بين قلوبهم. قدموا للعالم عرضاً: إما الإسلام أو الجزية أو الحرب.
ملك البلاد التي ستنتمي إليها حبيبتي في الألفية الثالثة كان رده حاسماً على هذا العرض: الحرب!