إني لأعجب من شعراء ونقاد معاصرين يظنون أن تفضيل الشعر أو الشاعر أو القصيدة يكون من خلال موضوعها وقيمتها الأخلاقية، لذلك لن نعطيهم رأي لبيد أو الفرزدق أو الأصمعي، لكن رأي كبار الصحابة رضي الله عنهم.
الشعر كائن محايد بعيد عن الأدلجة والمذهب، الشعر لن يجاملك لأن منطقك الحق والفضيلة، ولن يبعدك أو يقربك لأنك قلت شعرا فاضحا.
فاختيار المواضيع الدينية، والمواضيع ذات المقاصد النبيلة ليست هي ما تحدد علو الشعر أو هبوطه.
وسنبدأ بمثال بسيط يفنّد رأي هؤلاء، وسنرى إن كان أحدهم يزعم أن دينه أعلى من عمر وعلي رضي الله عنهما..
سئل عمر بن الخطاب عن أشعر الناس، فقال: امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر.١٤
•••
وقال علي بن أبي طالب في امرئ القيس : «رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وإنه لم يقل لرغبة أو رهبة.»
إذا افترضنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو المعروف عنه التشدد والتحرز، ما باله يقدّم امرأ القيس الفاحش وينتصر له؟
اِمرؤ القيس الذي يصف دخوله الخدر، وافتراشه زوجة رجل آخر، ويكتب معلقة يتذكر فيها أيام شبابه ولهوه..إلخ
وعلى أي أساس قدمه عمر بن الخطاب، ألا يتأمل هؤلاء ما قال عمر رضي الله عنه؟
وهل سيدّعي هؤلاء أن دينهم وحفاظهم وحياءهم أفضل من دين وحياء عمر بن الخطاب، أو أن عمرا لا يفهم بالشعر ؟
كذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفضّله وقدّمه، فهل دينهم وحفاظهم أعلى من رجل ربّاه وأدّبه ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وقد قال شعرا وروي عنه أيضا ؟
إنهم يبيعون الدين للشعر، ويجعلون الدين من معايير النقد، وتلك خرافة لم يتفوه بها أحد من قبل.
وكل هذا كي يستقطبوا الدروايش من الناس، لأن الدين لا يخاصمه أحد، ولا ينتقده أحد، هذا زعمهم !
وهم في هذا كمن يشتري ويبيع في الدين، من أجل السياسة، للوجاهة السياسية، وأخذ الشرعية.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر كثيرا من أشعار مرت عليه، سواء من حسان رضي الله عنه، أو حتى العبيد والموالي.
فنجد قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه بعد غزوة بدر
خير مثال التي مطلعها:
ﺗَﺒَﻠَﺖْ ﻓﺆﺍﺩَﻙَ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡِ ﺧَﺮﻳﺪﺓ ٌ،
ﺗﺴﻘﻲ ﺍﻟﻀﺠﻴﻊَ ﺑﺒﺎﺭﺩٍ ﺑﺴﺎﻡِ
ﻛﺎﻟﻤﺴﻚِ ﺗﺨﻠﻄﻪُ ﺑﻤﺎﺀِ ﺳﺤﺎﺑﺔ،
ﺃﻭْ ﻋﺎﺗﻖٍ ﻛﺪﻡِ ﺍﻟﺬﺑﻴﺢِ ﻣُﺪﺍﻡِ
ﻧُﻔُﺞُ ﺍﻟﺤﻘﻴﺒﺔ ِ ﺑَﻮْﺻُﻬﺎ ﻣُﺘَﻨَﻀِّﺪٌ،
ﺑﻠﻬﺎﺀُ، ﻏﻴﺮُ ﻭﺷﻴﻜﺔ ِ ﺍﻷﻗْﺴﺎﻡِ
ﺑﻨﻴﺖْ ﻋﻠﻰ ﻗﻄﻦٍ ﺃﺟﻢَّ ﻛﺄﻧﻪُ،
ﻓُﻀُﻼً ﺇﺫﺍ ﻗﻌﺪَﺕْ، ﻣَﺪﺍﻙُ ﺭُﺧﺎﻡِ
ﻭﺗﻜﺎﺩُ ﺗﻜﺴﻞُ ﺃﻥ ﺗﺠﻲﺀ ﻓﺮﺍﺷﻬﺎ،
ﻓﻲ ﻟﻴﻦِ ﺧﺮﻋﺒﺔٍ، ﻭﺣﺴﻦِ ﻗﻮﺍﻡِ
ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻨﻬﺎﺭُ، ﻓﻼ ﺃﻓﺘﺮُ ﺫﻛﺮﻫﺎ،
ﻭﺍﻟﻠﻴﻞُ ﺗﻮﺯﻋﻨﻲ ﺑﻬﺎ ﺃﺣﻼﻣﻲ
ﺃﻗﺴﻤﺖُ ﺃﻧﺴﺎﻫﺎ، ﻭﺃﺗﺮﻙُ ﺫﻛﺮﻫﺎ،
ﺣﺘﻰ ﺗُﻐﻴَّﺐَ ﻓﻲ ﺍﻟﻀّﺮﻳﺢِ ﻋﻈﺎﻣﻲ
ﻳﺎ ﻣﻦ ﻟﻌﺎﺫﻟﺔ ٍ ﺗﻠﻮﻡُ ﺳﻔﺎﻫﺔ ً،
ﻭﻟﻘﺪ ﻋﺼَﻴﺖُ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻬَﻮﻯ ، ﻟُﻮّﺍﻣﻲ
ﺑﻜﺮﺕْ ﺇﻟﻲّ ﺑﺴﺤﺮﺓ ٍ، ﺑﻌﺪَ ﺍﻟﻜﺮﻯ،
ﻭﺗﻘﺎﺭﺏٍ ﻣﻦْ ﺣﺎﺩﺙِ ﺍﻷﻳﺎﻡِ
ﺯﻋﻤﺖْ ﺑﺄﻥّ ﺍﻟﻤﺮﺀَ ﻳﻜﺮﺏُ ﻳﻮﻣﻪ
ﻋُﺪْﻡٌ ﻟﻤُﻌﺘﻜِﺮٍ ﻣﻦَ ﺍﻷﺻْﺮَﺍﻡِ
ﺇﻥْ ﻛﻨﺖِ ﻛﺎﺫﺑﺔ َ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﺪّﺛﺘِﻨﻲ،
ﻓﻨﺠﻮﺕِ ﻣﻨﺠﻰ ﺍﻟﺤﺎﺭﺙِ ﺑﻦ ﻫﺸﺎﻡِ
ﺗَﺮَﻙَ ﺍﻷﺣِﺒّﺔ َ ﺃﻥْ ﻳﻘﺎﺗﻞَ ﺩﻭﻧَﻬﻢْ،
ﻭَﻧﺠﺎ ﺑﺮَﺃﺱ ﻃِﻤِﺮَّﺓ ٍ ﻭَﻟِﺠﺎﻡِ
ﺟﺮﻭﺍﺀَ، ﺗﻤﺰﻉُ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﺒﺎﺭِ ﻛﺄﻧﻬﺎ
ﺳﺮﺣﺎﻥُ ﻏﺎﺏٍ ﻓﻲ ﻇﻼﻝِ ﻏﻤﺎﻡِ
ﺗﺬﺭُ ﺍﻟﻌﻨﺎﺟﻴﺞَ ﺍﻟﺠﻴﺎﺩَ ﺑﻘﻔﺮﺓ ٍ،
ﻣﺮَّ ﺍﻟﺪﻣﻮﻙِ ﺑﻤﺤﺼﺪٍ ﻭﺭﺟﺎﻡِ
ﻣﻸﺕْ ﺑﻪ ﺍﻟﻔﺮﺟﻴﻦِ، ﻓﺎﺭﻣﺪﺕْ ﺑﻪِ،
ﻭﺛﻮﻯ ﺃﺣﺒﺘﻪُ ﺑﺸﺮّ ﻣﻘﺎﻡِ
ﻭﺑﻨﻮ ﺃﺑﻴﻪِ ﻭﺭﻫﻄﻪُ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻙٍ،
ﻧَﺼَﺮَ ﺍﻹﻟﻪُ ﺑﻪِ ﺫﻭﻱ ﺍﻹﺳْﻼﻡِ
إلى آخر القصيدة..
ويمكن البحث عن تلك الصفات التي ذكرها حسان؛
نفج الحقيبة مثلا، وحركة تلك الفتاة البطيئة في الفراش بسبب امتلاء الردف، حتى انتقل لهجاء المشركين.
فحتى هذه القصيدة لم ينكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأتنا أنه نهى عن معاني الشعر الغارق بالوصف، أو تشدد فيها، لا بل قال : اُهجهم ومعك روح القدس.
فإن كان هذا الشعر بتأييد ونصر من جبريل، من أين جاء هؤلاء ليقوموا بتصنيفاتهم التي تناقض فعل نبي وقول صحابي ؟؟
وهناك قصيدة لأحد العبيد وهو سحيم عبد بني الحسحاس، والقصيدة من القصائد العالية ومطلعها:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وإذا قرأتم القصيدة ستجدون أن سحيم بالغ في وصف مغامراته مع بنات أسياده، فهو عبد مملوك، ومنها يقول:
تجمّعن من شـتّـى ثلاثا وأربعا
وواحدة حتى بلغن ثـمانيا
سليمى وَسلمى والرباب وزينب
وأروى وريا والمنى وقطاميا
تداعين من أعلى البيوت يعدنني
بقية ما أبقين نصلاً يمانيا
يعدن مريضا هن هيّجن ما به
ألا إنما بعض العوائد دائيا
والرسول صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت سحيم وقاله في مجلس:
كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهيا
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمتنع عن التمثل بقصيدة فاحشة بالوصف، أو هل كان ينكر إنشادها وتناقلها؟
وهل الرسول صلى الله عليه وسلم منع سحيم العبد ؟؟
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسحيم :
لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لكأفاتك؟؟
لأن الشاعر قال: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا؟؟
ومقصد عمر أنه تمنى لو قال سحيم كفى الإسلام والشيب، أن يبدأ بالإسلام قبل الشيب ليعطيه جائزة.
فكيف يعطيه على شعر فاحش؟؟
هذه الأمثلة تفنّد رأي هؤلاء الفئة التي تزعم الشعر والنقد، ولم تبحث بين السطور، فالشعر لم يكن يوما بموضوعه ولكن بما فيه من سحر اللغة والشعر.
فإن كانوا مصرين على رأيهم، فليراجعوا عمرا وعليا، وليراجعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن أقول لهم أن يأخذوا برأي كبار النقاد، لأن كما يبدو أن كبار النقاد مثل الأصمعي وغيرهم متهمون بنظر هؤلاء.
صالح طه الجبرتي.
#ظميان_غدير