سواء أكان هنالك من شكّ في هذا الشعر الذي وافانا عن العصر الجاهلي، أم لم يكن، فإن أثره في الشعر الذي ينسب إلى الحقب التي تلته كان قويا في كثير من الأحايين، وكان مخوفاً في بعضها، حتى أوشكنا ألا نتلو سوى الشعر الجاهلي في أقواف شتى…
فكيف صار إلينا على هذا النحو الذي إن دل على شيء فعلى مراحل طويلة قد جازها…؟
لا ريب في أن شعر عامة الأمم تحادر من أصول واحدة. فقد كان في مستهله كلمات تقال أكثر منه حروفاً تكتب. وقد نشأ في ترانيم دينية وطقوس سحرية، يتغنى بها الكهنة عادة، وتنتقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة، فتطورت أنغامه، التي ربما أوحى بها ما في الطبيعة وحياة الجسد من اتساق، على أيدي السحرة الذين أرادوا أن يحتفظوا به ثم يزيدوا من التأثير السحري له، فأصبح الشاعر خالقاً بفضل متخيله المجنح مما ميزه عن سواه من الأناسي، وأحاطه بآفاق كثيفة من الغموض فادعى لنفسه الصلة الحميمة بالغيب، زاعماً أنها تلهمه شعره، على يدي شيطان عجيب!
وقد ظلت حكاية الشيطان تحوكها الألسنة حتى كان عهد الإنسان بالكتابة، فغشيت أسفاره… وما فتئت كذلك حتى وجدت طريقها إلى مكتبتنا العربية القديمة، فهذا صاحب الجمهرة يذكر: أن رجلاً أتى الفرزدق فقال: أني قلت شعراً فانظره، قال: أنشد. فقال:
ومنهم عمرو المحمود نائله
كأنما رأسه طين الخواتيم
قال فضحك الفرزدق ثم قال: يا بن أخي أن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخرة فأفسدت).
إلا أن هنالك من يعتقد أن للشاعر شيطاناً واحداً لا شيطانين. فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود، وبلغ من التحقيق والتصديق بهذا الشأن قول القدامى أن اسم شيطان الأعشى مسحل، واسم شيطان الفرزدق عمرو. أو هُمَيم، واسم شيطان بشار شنقناق، واسم شيطان المنخل عمرو، وكذلك المخبّل، واسم شيطان امرئ القيس لافظ، واسم شيطان زياد الذبياني هادر، واسم شيطان الكميت مدرك بن واغم، وهو ابن عم شيطان عبيد بن الأبرص.
وظل الشعر يرتقي من جيل إلى جيل، خاضعاً لسنة التطور، حتى صار إلى السجع فالرجز، ومن الرجز انبثقت العروض.
وقد اختلفت العرب في عدد الأبيات التي أطلقوا عليها شعراً فمنها من لم يسمِّ البيت المفرد شعراً ( إعجاز القرآن ص80 )، ( مادة “شعر” في لسان العرب): (وربما سموا البيت الواحد شعراً، حكاه الأخفش، قال ابن سيده: وهذا ليس يقوى إلا أن يكون على تسمية الجزء باسم الكل) (الفوائد ص219): (فأما القرآن العزيز فلم يقع فيه من ذلك إلا مثل البيت الواحد والنصف والبيت المفرد ولا يسمى شعراً ) ومنها من سمى البيتين فصاعداً شعراً (إعجاز القرآن: ص80. ويعتقد الباقلاني أن أكثر صناعة العرب من أهل الإسلام قد ذهبت إلى ذلك. وانظر سر الفصاحة: ص 270)، ومنها من لم يسم أقل من أربعة أبيات شعراً (المزهر: ص 477، ج2. أعجاز القرآن: ص 83). على أن الرأي السائد أن الشعر أطلق على البيتين فما فوق: (سمي شعراً من قولهم شعرتُ بمعنى فطنتُ والشعر الفطنة، كأن الشاعر عندهم قد فطن لتأليف الكلام. وإذا كان هذا مفهوماً فأقل ما يقع عليه اسم الشعر بيتان لأن التقفية لا تمكن في أقل منهما، ولا تصلح في البيت الواحد لأنها مأخوذة من قفوت الشيء إذا تلوته. وقد ذهب العروضيون إلى أن أقل ما يطلق عليه اسم الشعر ثلاثة أبيات. وليس الأمرُ على ما ذهبوا إليه لأن الحد الصحيح قد ذكرناه وهو يدل على أن البيتين شعر، فإن اعتلال بعضهم بأن البيتين قد يتفقان في كلام لا يقصد قائله الشعر ولا يتفق ثلاثة أبيات فيما لا يقصد مؤلفه الشعر فاعتلال فاسد)، (سر الفصاحة: ص270)، هذه حجة ابن سنان الخفاجي!! عن الفراء أن (العرب تسمي البيت الواحد يتيماً، وكذلك يقال: “الدرة اليتيمة” لانفرادها فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي”نتفة”، وإلى العشرة تسمى “قطعة”، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى “قصيداً”، وذلك مأخوذ من المخّ القَصيدِ وهو المُتراكِمُ بعضه على بعض، وهو ضد الزَّارِ، ومثله الرَّثيدُ)، (إعجاز القرآن: ص390 وما بعدها).
وأقدم شعر وجد سننه إلينا كان أبياتا قليلة يقولها الرجل عند حدوث (الحاجة طبقات فحول الشعراء: ص23). من ذلك قول دويد بن زيد بن نهد حين حضره الموت:
اليوم يُبنى لدويد بيتــه
لو كان للدهر بلىً أبليتـه
أو كان قِرْني واحداً كفيتُه
يا رُبَّ نَهْبٍ صالحٍ حويته
ورب غَيْل حسنٍ لويتُـه
ومعصم مخَضب ثنيتــه
(طبقات فحول الشعر: ص27 – 28، المزهر: ص75).
ثم تطورات الأبيات القليلة على أبيات كثيرة.. فأصبحت قصائد. وأننا لنلاحظ في أغلب هذه القصائد الطويلة ظاهرتين بارزتين فمنها تبدأ بمخاطبة النساء، ومنها ما تبدأ بمخاطبة الخليين، وقد عزا ذلك أبو هلال العسكري على أن (من عاداتهم أن يخاطبوا نساءهم في ابتداءات أن قصائدهم إذا حضروا يخاطبوا خليليهم إذا سافروا لأنه كان لا يسافر منهم أقل من ثلاثة). (ديوان أبي محجن الثقفي: ص4).
ولئن كان اختلاف في معرفة أول من قال القصائد، فثمة اختلاف، أيضاً، في أول من أطال القصائد.. إلا أن جل المصادر العربية القديمة متفقة على أبي ليلى المهلهل بن ربيعة (ت حوالي531)، وكان عندما قتل بنو شيبان أخاه كليب وائل(18) سنة 494م.
ونحن إذا اطلعنا على القصائد التي تم تكوينها قبل هذا التاريخ لما وجدنا لها متفقا في الطول. فقد استصرخت ليلى العفيفة (ت نحو 483) البراق بن روحان، في قصيدة تبلغ أربعة عشر بيتاً مطلعها:
ليت للبراق عيناً فتـــرى
ما أقاسي من بلاء وعنا
وقد افتخر البراق بن روحان ت نحو 470) بعشرين بيتاً مطلعها:
دعاني ســــيد الحيين منا
بني أسد السميذع للمغار
وهذا ما يجعلنا نخالف اعتقاد البغدادي بأن المهلهل (ولم يقل أحد قبله عشرة أبيات)، (خزانة البغدادي: ص143،ج2)، فهل يعني أن إطالة القصائد كان أكثر من ذلك؟ بلى! فقد ذكر الأصمعي أن أول من يروى له قصيدة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر هو المهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضَمْرة رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع. ونحن إذا علمنا أن البغدادي يردي لنا بأن البغدادي ينبئنا بأن هناك (قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون بيتاً لأبي دواد الإيادي وهذه الأبيات من أولها:
أوحشت من سروب قومي تعار فأروم فشابة فالســـــتار).
(خزانة الأدب للبغدادي ص 189، ج4، ط: بولاق). وإذا علمنا أن أبا دؤاد كان من معاصري أبي ليلى المهلهل علمنا أن الروايات العربية غير موثوق بها ولا يمكنها أن تبلغنا الرجية. وهذا ما نميل إليه.
هذا بالإضافة إلى أن المزهر يروي: (وزعم بعضهم أن الأفوه الأودي “ت نحو 570م” أقدم من هؤلاء، وأنه أول من قصد القصيد)، (المزهر: الجزء الثاني في ص296، في باب معرفة. الشعر والشعراء – مطبعة محمد علي صبح – بلا تاريخ).
ولكن هاتيك القصائد الطوال منها، والقصار، لم تكن كلّها رقيقة! فمن أول شاعر رقَّق القصائد؟ وهل هو أبو ليلى المهلهل؟
إن المصادر العربية يختلف في ذلك وهي على أربعة أنواع:
أولاً: منهم من يقول بأن (مهلهل اسم شاعر سمي بذلك لرداءة شعره)، ذكر ذلك في لسان العرب، وتاج العروس، أو (لهلهلة شعره كهلهلة الثوب وهو اضطرابه واختلافه)، (طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي ص33)، (الموشح: ص74).
ثانياً: منهم من يقول بأن المهلهل، لقّب بقوله لزهير بن جناب:
لما توغل في الكُراع هجينهم هلهلت أثار مالكا أو حنبلاً
(تاج العروس، كلمة هلهل، وفي سمط اللآلي: ص112، ج1، والاشتقاق ص61، ج1، اختلاف في نص البيت، وكذلك في جمهرة اللغة والمؤتلف والمختلف: ص11، في الأمالي لليزيدي ص117، حيث ورد جابر عوضاً عن مالك. وانظر الصحاح جمهرة اللغة والقاموس المحيط ولسان العرب، والمؤتلف والمختلف، ص11وسرح العيون: ص48).
ثالثاً: منهم من يقول بأن المهلهل (لقب لأنه أول من أرقَّ الشعر)، ذكر ذلك في القاموس المحيط، وتاج العروس، والصحاح، ولسان العرب وسمط اللآلي ص112، ج1، وخزانة الأدب: ج2، ص143، أو (لطيب شعره ورقّته)، (الأغاني: ج5، ص57)، وفي الشعر والشعراء: ج1، ص256 (سمي مهلهلاً لأنه هلهل الشعر، أي أرقّه، وكان فيه خُنْث). وفي سرح العيون: ص48 يقول: (قيل لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل نسج الشعر أي أرقّه). وفي ص49، يتحدث عن المهلهل فيقول: (وهو خال امرئ القيس بن حجر، ومنه ورث أجادة الشعر). إذن فهو يفهم الهلهلة بمعنى (إجادة الشعر). وكذلك قول أبي عبيدة في النقائص ص905: (وإنما سمي مهلهلاً لأنه هلهل الشعر يعني سَلسَل بناءه كما يقال ثوب مهلهل إذا كان خفيقاً).
رابعاً: منهم من يقول بأن المهلهل لقب بذلك لأنه لم ينقح شعره، وإنما أرسله كما حضره. ذكر ذلك تاج العروس، لسان العرب.
خامساً: (المهلهل المرقق للشعر، وإنما سمي مهلهلاً لأنه أول من رقق الشعر، وتجنب الكلام الغريب الوحشي)، (الموشح: ص74). وفي تاج العروس: (الهلهل: رقيق من الشعر نقله الجوهري وهو مجاز وقد هلهله إذا أرقّه). ونحن لو فتشنا عن كلمة (هلهل) نجد كذلك اختلافاً في المعنى فهي:
أولاً: في لسان العرب: (شعر هَلْهل رقيق)، والصحاح: (شعر هَلْهَل، أي رقيق)، والاشتقاق ص338، ج2، (واشتقاق “مهلهل” من قولهم ثوب هَلْهال، إذا كان رقيقاً. وذكر الأصمعي أنه سمي مهلهلاً لأنه (كان يهلهل الشعر، أي يرققه ولا يُحكمه).
ثانياً: في أساس البلاغة: (هلهل الشعر أرقّه). (ملاحظة: أرق الكلام: حسنه)، (هلهل النسّاجُ الثوبَ، وثوب هلهل: سخيف النسج).
ثالثاً: في جمهرة اللغة: (الهلهلة وهو ترك إحكام الصنعة، ثوب هلهل وهلهال وهُلاهِل – إذا كان رقيقاً وذو هُلاهِلة).
رابعاً: في القاموس المحيط: (الهلهل: الثوب بالسخيف النسج، وقد هلهله النشاج). وفي الصحاح (ثوب هلهل: سخيف النسج. وقد هلهل النسّاجُ الثوبَ إذا أرقَّ نسجَهُ وخفَّفه). وفي لسان لعرب (ثوب هِل وهَلْهل وهَلْهال وهُلاهِل ومُهَلْهَل: رقيق سخف النسج. وقد هلهل النساج الثوب إذا أرقَّ نسجه وخفَّفه. ثوب هلهل رديء النسج). وفي تاج العروس: (الهلهل: الثوب السخيف النسج وقد هلهله النساج إذا أرق نسجه وخففه نقله الجوهري)، (المهلهل أيضاً الرقيق الثوب)، وفي المخصص، ج4، ص63: (ثوب هَلْهل هَلْهال: رقيق النسج)، قال أبو علي هو المتدارك النسج، وفي النقائص ص905، عن أبي عبيدة: (يقال ثوب مهلهل إذا كان خفيفاً). وحجة هؤلاء قول النابغة:
أتاك بقول هلهل النسج كاذب
ولم يأت بالحق الذي هو ناصع
(طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص33).
وجاء في الاشتقاق ص 61، ج1: (ذكر الأصمعي أنه أنما سمي المهلهل لاضطراب شعره).
وفي سرح العيون: ص48، يقول: (قيل لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل نسج الشعر أي أرقه)، وفي ص49، يتحدث عن المهلهل فيقول: (وهو خال امرئ القيس بن حجر ومنه ورث إجادة الشعر)، إذن فهو يفهم الهلهلة بمعنى (إجادة الشعر)، وكذلك قول أبي عبيدة في النقائض ص905: (وإنما سمّي مهلهلاً لأنه هلهل الشعر يعني سلسلَ بناءه كما يقال ثوب مهلهل إذا كان خفيفاً).
فبأية رواية نأخذ؟