“الحرص على الأوقات” :
قيل إن ” الفتح بن خاقان، الأديب والشاعر، قد كان حريصا على طلب العلم، وقد اتّخذه المتوكّل- الخليفة العباسي- وزيرا عنده، ومع ذلك كان شديد الحرص على وقته، وعلى طلب العلم. فكان كلما حضر بين يدي المتوكل أخفى الكتاب في كُمّه أو خُفّه، فإذا قام من مجلس المتوكل للبول أو الصلاة، أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه، إلى أن يأخذ مجلسه! فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة، أخرج الفتح الكتاب من كُمّه أو خُفّه، وقرأه في مجلس المتوكل، إلى حين عودته”.
لا يملك الإنسان في حياته ما هو أغلى من الوقت، إذ لا يتيسّر له القيام بأيّ عمل إلا في ظلّه، وإنه لا يقدر على استرداد ساعة ضاعت ولحقت بالماضي، ومع هذا ليس تعامله مع الوقت إلا كأرخص شيء وأتفهه في الحياة:
الوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه
وأراهُ أسهلَ ما عليكَ يضيعُ
“دخل قومٌ على رجل من السلف، فقالوا: لعلّنا شغلناك؟ فقال: أصدقكم القولَ: نعم! كنتُ أقرأ، فتركتُ القراءةَ لأجلكم!”.
هذا الإمام هو الطبري يُخبرنا تلميذه القاضي أبو بكر بن كامل، يقول: ما ضيّع الطبري دقيقةً من حياته دون فائدة أو إفادة أو استفادة”.
كان الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي، يقول: “أنا أقصّر بغاية جُهدي أوقات أكلي، حتى أختارَ سَفّ الكعك وتحسّيه بالماء، على الخُبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفّرا على مطالعة، أو تسطير فائدة، وإن أجلّ تحصيل عند العقلاء -بإجماع العلماء- هو الوقت، فهو غنيمة تُنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة”. (قيمة الزمن عند العلماء/ العلامة عبد الفتاح أبي غدة| ٢٥)
بمثل هذا الحرص الشديد على الوقت والاهتمام البالغ به قد وفّق أسلافنا لجعل أوقاتهم مُثمّنة مباركة، وإنجاز أعمال ضخامٍ محيّرة للعقول، وخدمة الشريعة الإسلامية، ونفع العباد والبلاد، وتخليد ذكرهم في أنصع صفحات التاريخ.
العلماء والطلاب الذين يجب عليهم الحرص على أوقاتهم أكثر من الطبقات الأخرى، وينبغي لهم استغلالها في قراءة، ودراسة، وتدريس، وتصنيف، وذكر، وتلاوة، وما يؤدّي إلى تنمية المهارات وتطوير الذات، قد ابتلوا بما ابتُلي به عامّة الناس، من إهدار الأوقات وتضييع الفرص، إلا من رحم ربّي وقليل مّا هم.
إن مواقع التواصل الاجتماعي التي نستخدمها، كم تأخذ من أوقاتنا طوال اليوم؟ فعلا كم هي الساعات التي تضيع وتذهب سُدىً خلال التصفح العشوائي للفيسبوك وتويتر والواتساب والمنصات الأخرى وهي كثيرة؟
قال الشاعر:
إِذا كان رأسُ المال عمرَك فاحترزْ
عليه من التضييعِ في غيرِ واجبِ
فبينَ اختلافِ الليل والصبح معركٌ
يَكُرُّ علينا جيشُهُ بالعجائبِ.