كنت أسمع صوتا نسائيا عذبا قادما من المنزل المجاور، وأنا ممدد في غرفة في السطح. الكلمات لا تخفى عني، أتذكرها جيدا، “يافؤادي لاتسل أين الهوى ” ” كان صرحا من خيال فهوى”، عرفت الأغنية من الشطر الأول للقصيدة، كنت أعرف قصة كاتبها، والظروف التي تم إخراجها للوجود، الكلمات العظيمة لاتنسى، وأبطالها يظلون يسكنون أفئدتنا إلى الأبد.
حمزة شاب أعزب، يسكن بجوارنا، يعشق حد الجنون هذه الأغنية، ولهذا تجده، لايتوقف، ولا يمل كل يوم في إيذاعها، كأن شيئا خفيا يجمعه بكلماتها.
في كل مناسبة كانت تجمعني به أسأله نفس السؤال: ياحمزة، لقد تعبت من نفس الأسطوانة، من نفس اللحن، من نفس الكلمات… فيضحك ويرد علي بسخرية : ما عليك سوى تغيير “العتبة” أي المنزل، وبذلك سترتاح من خلقتي ومن أصوات الأشباح التي تؤرقك.
كان حمزة شاب قوي الذاكرة، شديد العزلة، لايكلم أحدا من الجيران، ولهذا تجده دائما ينصحني بتجنب الناس قدر المستطاع : “إنهم مصدر العذاب”. حصل على شهادة الباكالوريا، والتحق بكلية الآداب، تخصص ” الآداب الإنجليزية ” ، لم نفهم آنداك سر التحاقه بهذه الشعبة، لكن نعلم علم اليقين هوسه بالشعب الإنجليزي، كان يقول دائما: “إنه شعب منافق، ولكنه مصدر الجمال والفرص العظيمة”.
ألهذا السبب فعلا، ترك الكلية في السنة الأولى وسافر إلى إنجلترا يبحث عن عمل هناك ؟ ترك الجمل وما حمل كما يقول المثل، وتَرَكَنا جميعا نتيه في بحر من التساؤلات ؟
كان الزمن كافيا بأن ننساه، بأن نمسحه من ذاكرتنا، ليس هو الأول والأخير من أنزلنا عليه الستارة بمجرد ما ودعنا، نحن شعب عظيم في النسيان، شعب ننسى بسرعة كل أصدقائنا، وأعدائنا، كل أولئك الذين ضحوا من أجلنا.
اِنغمس حمزة بسرعة مع المجتمع الإنجليزي، هذه ميزة كل المغاربة الذين يهاجرون، في رمشة عين يتكيفون مع الناس، مع تقاليدهم وطقوسهم وقوانينهم، إنهم شعب يتماهى حد السخف، يقلدون كل شيء جميل وقبيح، في الأكل والشرب، واللباس، والكلام، والغناء والرقص، وبسرعة البرق يحفظون الإنجيل، وقد يتحولون إلى رهبان يقرؤون في الدير الأدعية والسلام.
حمزة عندما كان بجوارنا لم يكن يفته وقت الصلاة، كان يقول دائما لي : يمكننا أن نفعل كل شيء، كل الفواحش، لكن لا يمكننا أن نتخلى عن ديننا، فهو جوهر صلاحنا ونجاتنا “، لكنني لا أعرف لماذا كنت أشعر أنه ليس سوى ببغاء يحفظ جيدا عددا من الأقوال والمأثورات كما يحفظ جيدا أغنيته المفضلة إليه.
وهذه ليست عادة مرتبطة به لوحده، فالكثير من الناس تجدهم مرتبطين بشكل ما أو بتوجه معين أو ثقافة ما أو ضعية معينة، عندما يكونون في “موقع ما ” ولكن سرعان ما تنكشف سوءاتهم عند أول امتحان، فيبيعون كل شيء لفائدة أول مشتر. الحقيقة ليست دائما ما نعلن عليه في الظاهر وأمام الناس، ما ندعيه في لحظة نكون أكثر حماية – حماية من الأسرة والمجتمع — الحقيقة هي عندما تكشف نفسك بنفسك قبل أن يكشفك الآخرون.
صورة السكير، المقامر، المتسكع، المتسول، اللص، الشاب الذي تعدت علاقته الغرامية إلى فتيات شقراوات من دول مجاورة، هذه مجرد أوصاف ظهرت في شخصية حمزة بمجرد ما قضى سنة في بلده الجديد إنجلترا، هل هذه فعلا شخصيته الحقيقية ؟ لماذا يتغير الناس بمجرد ما ينتقلون من مجال إلى مجال آخر ؟ هل الإنسان مهيأ بهذه السهولة ليتحول من ملاك إلى شيطان ؟ أين هي القيم التي كان يحملها ويدافع عنها بشدة ؟ هل هذا التحول يمكن أن يحدث مع الجميع أم مع فئة معينة ؟ ماهي الأشياء المثيرة التي تجعل الناس في لحظة ما يفقدون صوابهم ؟
في الحقيقة شخصية حمزة هي شخصية محيرة، اكتشفت أنه لغز حقيقي، فهو من أسرة جد محافظة، حافظ لأجزاء مهمة من القرآن، متدين بشكل عادي، متعلم، ثائر على كل التقاليد الموروثة، ثائر بشكل مفرط على كل شيء، لايعجبه العجب، يبحث عن كل شيء ينسيه السنوات التي قضاها في مدينته.
على حد علمي، ، فقد ترعرع في ظروف عائلية حسنة، كان كل شيء موفر له، من أكل ولباس وتعليم، أبوه كان رجلا، نقي اليد، متعلما وسياسيا مشهورا بالمدينة، جد حازم معه، ومع كل إخوته الثلاثة، وأخته الوحيدة ” نسرين “، كانت جميلة الوجه، تتشاجر معه أغلب الأوقات، تزوجت فجأة وذهبت إلى كندا.
لا زلت أذكر، ذاك اليوم، كان يوم عيد الفطر، الحي بكاملة يتحدث عن ” فِعْلَةِ ” حمزة، عن الجريمة البشعة التي ارتكبها، عن ضلاله المبين كما ردد رجال الحي، حتى الأطفال كانوا يهتفون باسم حمزة ؛ حمزة الظالم، حمزة الكافر. كنت أحاول جاهدا لأتَبَيّنَ حقيقة الأمر، كنت أريد الوصول إلى حكاية منظمة، ومقنعة، ومنطقية.
يبدو أننا شعب، سريع الغضب، لا نستوضح، لا ننتبه إلى آية عظيمة نزلت لخدمتنا طول الحياة: ” إذا جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا “، عندما يتعلق الأمر بالعرض والدين، نرفض بالكامل أن نستمع للروايات الأخرى، نرفض أن نستمع للحقيقة، الدين مقدس والخبر بنفحة دينية أخطر من المقدس.
اِلتقيت بوالد حمزة واقفا أما باب منزله، يقاوم القلق، وجهه غير مرتاح، كأنه لم ينم سنة كاملة، قبل أن أحييه وأبارك له العيد، باغتني بسؤاله: أيمكن أن يفعلها هذا المسخوط ؟ ما الذي يجعله يرتكب هذه المصيبة التي وقعت على رؤوسنا ؟ أنت تعرف أنني لم أفرط في شيء كان يطلبه مني ..
بصراحة لم أعرف بماذا أجيب، كنت أحترم الرجل كثيرا، لا أريد أن أجيبه بما يجرحه أكثر ويزيد من قلقه، لا أريد أن أصدق ماسمعته من الجيران، لأني أعرف أن الناس بالمدينة أكبر مخترعين للقصص والحكايات المفبركة، إنهم صانعي الفرجة على حساب سمعة الناس.
قلت له بنوع من الثقة : لا يمكن ن نصدق دائما كل مايقوله الناس سيدي.. فأجابني وعلامات الارتباك واضحة عليه: لقد سمع الناس الخبر في قناة إنجليزية مشهورة، فأجبته بسرعة : ليس كل ما يقال في الإعلام دائما صحيحا، ومن أجل أن أطمئنه أكثر قلت له : الإعلام دائما يبحث عن الأخبار المثيرة من أجل أن يحقق أكبر نسب للمشاهدة. فرد علي بنبرة العارف المجرب قائلا : ياولدي ليس هناك نار بدون دخان، فقلت له: ولماذا لاتتصل بولدك مباشرة وتتأكد من الأمر؟ فرد علي : لقد فعلت ذلك مباشرة عندما سمعت بالخبر، لكنه لا يرد. وللإشارة يا ولدي، لقد قطع الاتصال بنا منذ مدة طويلة.
بعد مرور شهر على وقوع الحدث، بدأ الناس في الحي يتداولون أن حمزة أصبح مهدد بمدينة لندن، وأن هناك حراس دائمين يرافقونه في ذهابه وإيابه خوفا على حياته، بعد أن دخل أشخاص مجهولون وقاموا بإحراق منزله عن الآخر، وتركوا له رسالة مفادها :” لن تهنأ في حياتك منذ اليوم أيها الكافر “.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد بدأ يتم تداول كل يوم أخبار ومغامرات عن حمزة، ” فبين عشية وضحاها تحول إلى بطل مبحوث عنه من طرف الغيورين عن الدين وكذا السلطة التي أذاعت خبر منعه من دخول التراب الوطني، إنه شخص مبحوث عنه لدى العدالة بنوعيها الدنيوية والأخروية.
أمر خطير أن يصبح شاب في مقتبل العمر مطاردا من الجميع عن ذنب ارتكبه في حالة ضعف، أو إغواء من طرف جهة معينة، أو إغرائه بالمال والوجاهة الاجتماعية، خصوصا عندما يكون مرميا، يتسكع من مدينة إلى أخرى، ومن حي بائس إلى حي أكثر بؤسا بدون دعم ولا مساندة ولا رحمة، العالم في المهجر عالم موحش كما يحكي الجميع.
مرت عشر سنوات، عاد حمزة إلى بيت والده، بعض المحسنين من تكلفوا له بدفع تذكرة السفر، لا زال على طبعه لايكلم أحدا، ولايبالي بما حوليه، كالعادة نسي الناس الموضوع بعد أن انتقلوا إلى مواضيع جديدة، أكثر إثارة وحمقا وإمتاعا، لم يعد يذكر الناس الحادث، أو ربما يتجاهلون ذلك، الناس هي من تبادر بفتح الملفات الساخنة، وهي من تحاكم، وهي من تبادر بغلقها عندما تفقد شهيتها في ذلك.
في إحدى المساءات، التقيت به في مقهاه المفضلة، ببذلة رمادية مستعملة كثيرا، يرتشف قهوة سوداء، يدخن سيجارة فَيُتْبِعُهَا بسيجارة أخرى، كانت هذه عادته من قديم، وجهه كان يميل إلى الإصفرار أكثر منه إلى البياض، بادرني بالقول : لم تتغير، الكتاب هو الكتاب دائما بين يديك يا صديقي.. وزاد وهو يضحك : كل هذه السنين وأنت تأكل الأوراق أكلا ولم تخترع لنا شيئا بعد.. تجاهلت سخريته وقلت له : الحمد لله على سلامتك. فرد علي وهو يتنهد : عمر الشقي باق كما يقول السابقون.
تفاديت أن أحدثه في الموضوع، فقمت واقفا، وشعرت أنه يريد أن يحدثني في الموضوع فتجاهلت الأمر، أنا أعرفه جيدا، شخص كتوم، لا يفصح عما يشعر به، يعاند في قول الحقيقة، يقول اليوم رأيا وفي مدة وجيزة ينساه ويقول ضده، له نظرة سوداوية لكل شيء، شخص متقلب ألفا في المائة، لكن يسجل له في الحي، أنه لم يسبق أن أضَرّ أو تشاجرَ مع أحد .
لم أتجاوز خطوتين عن مقعده، حتى التحق بي، اقترب مني أكثر، وضع يده في جيبه، فأخرج صورة، وقال لي : هذه سبب كل الضجة الكبيرة التي حولت حياتي إلى جحيم. فقلت له: أيمكن هذا ؟ قال: نعم وأكثر من ذلك، وزاد وقد بدا متأثرا : الناس مساكين دائما يبحثون عن ضحية يملأون بها الفراغ المهول الذي يقتات من حياتهم، الأجدر بالناس أن يواجهوا مشاكلهم الحقيقية، وأنا لست الأول أو الأخير ضمن لائحة طويلة جدا من الضحايا.
اقترب مني ووضع الصورة في جيبي، وقال لي : أقسم بالله العظيم أخذت الصورة من أجل أن أسوي وضعية أوراق الإقامة بعد أن سُدّتْ كل الأبواب في وجهي.
في منتصف الليل، سمعت كلمات الأغنية ترفرف في الهواء، تنعش الأجواء الباردة جدا، عرفت أن حمزة عاد لخلوته، أخرجت الصورة، أمعنت النظر فيها مدة طويلة، شعرت بالحزن على حمزة، على جيل بأكمله أصبح يفعل أي شيء، ولو بأخذ صورة مع راهب في الكنيسة والادعاء بالتمسح كما فعل حمزة من أجل لقمة عيش.. ارتفع الصوت عاليا كانت الأغنية على وشك النهاية تقول : ومضى كلّ إلى غايته.. لا تقل شئنا فإن الحظ شاء….