ولماذا لا يشاركنا ” ابن بطوطة ” فعاليات مسيرة العودة ” ؟؟؟ .. طالما أن العالم بأسره يشاركنا …
إهداء خاص :
إلى ” ابن بطوطة ” ….
وكل المشاركين في ” مسيرة العودة وكسر الحصار ” .
( الكاتب )
——————————-
“ابن بطوطة ” يشارك في ” مسيرة العودة”
في الصباح الباكر ؛ كنت أحث الخطى في طريقي إلى هناك … حيث الفعاليات الحاشدة التي تقام من الجميع للمشاركة في “فعاليات مسيرة العودة وكسر الحصار عن غزة ” …
عندما شاهدته عن بعد ؛ انتابتني الحيرة .. الدهشة .. التساؤل .. ومليون علامة استفهام تبدأ صغيرة ثم تكبر .. وتكبر .. وتكبر .. ..هل يفعل الرجل ذلك حقّاً ؟؟!! .. كيف ؟؟ .. متى ؟؟ .. وأين ؟؟ ..
لم أجد أي فائدة ترجى من كثرة التساؤلات تلك .. والتي لم أعثر لأي منها على إجابة شافية ..
.. وجدت بأن لا بد لي من البدء بالعمل الفعلي .. ليحل محل الحديث القولي ؛ وانطلقت نحو الرجل ؟؟!!..
لقد عرفته من زيه الغريب ، وغطاء رأسه المهيب ، وحذائه الغريب ؟؟!! .. كان الرجل يتأبط ” رزمة ” ضخمة من الأوراق والكتب الصفراء التي تحوي حكايات رحلاته العديدة ، ومواقفه الفريدة .. وغرائبه العجيبة .
يبدو أن الرجل قد عرفني وأنا أقترب منه ، فقد رأيت شبح ابتسامة غريبة ترتسم على محياه ، بينما كان يتقدم ليصافحني بيده الخشنة من أثر السنين .. التجوال .. الترحال .. والكتابة بالأقلام الخشبية الخشنة الغريبة .
صافحني بقوة كادت أن تطوح بي .. وضغط على يدي بخشونة كدت أن أصرخ طالباً النجدة .. تمتم وشبح الابتسامة على محياه :
– رجال الأدب والكتابة لهم سمات مشتركة ، فأنا عرفتك من سحنتك الغريبة ؟؟!! وعيونك الزائغة ؟؟!! .. وفكرك المشتت .. ونظراتك التائهة .. وعقلك المجهد .. و ..
لم يلبث أن سحب يده من يدي بقوة ، وقد تلاشت الابتسامة عن محياه .. واكفهر وجهه وهو يدمدم :
– ولكن ما بال يدك طرية هكذا ؟؟!! .. لينة .. ناعمة كالحرير ؟؟!! . فإن عهدي برجال الأدب والكتابة أن تكون أيديهم خشنة مثل يدي هذه ..
حاول الرجل أن يتبع القول المزمجر بالفعل الهادر .. فقد أقفل عائداً من حيث أتى .. لحقت به صارخاً متوسلاً .. متعلقاً بأهداب ثيابه البالية بقوة .. فتمزقت بين يديّ .. وخرجت قطعة من ثوبه بين أصابعي .. رحت أتوسل إليه .. أستحلفه بكل الرسل وبكل الأنبياء وبالكتب السماوية .. وبكتب رحلاته المشهورة .. وبكتب التاريخ التي ذكرت مناقبه .. وسردت عجائب رحلاته ” البطوطية ” .. أقسمت عليه أن يعود .. حاولت أن أشرح له الأمر وكنهه ، أفهمته بأنني رجل مبتدئ في الكتابة .. ومستجد على الأدب ، وسوف تخشوشن يداي فيما بعد ..
يبدو أن الرجل قد اقتنع بعض الشيء .. بل لعله رثى لحالي وأشفق عليّ .. فعاد ليرافقني رحلة الدخول إلى المشاركة في المسيرة الحاشدة ..
حاولت أن أساعد الرجل بأن أحمل عنه بعض الكتب والأوراق ، فطوح يدي بعيداً بضربة قوية من يده الخشنة .. وكادت تلك الضربة أن توصلني إلى الجانب الآخر من الحدود الوهمية .. تهاويت إلى الأرض .. وكدت أن أقع لولا أن استندت إلى أقرب جذع شجرة آدمية .
لم يسمح لي الرجل بالمساعدة .. أو حتى بمجرد لمس أوراقه .. التي بدت أمام ناظريّ صفراء اللون .. خضراء … زرقاء .. حمراء .. بل وبكل ألوان الطيف … كان الرجل يضمها إلى صدره .. إلى قلبه بقوة غريبة ، يحاول أن يحميها حتى من الهواء .
سرت إلى جانبه .. وانطلقنا نحو الجماهير الحاشدة المشاركة في المسيرة .
ما إن دخلنا منتصف المسيرة الحاشدة .. حتى كان الرجل يخرج أوراقه الصفراء .. ويستل قلمه الخشبي الخشن .. ليبدأ في توثيق ووصف رحلته الجديدة .. ” رحلة المشاركة في المسيرة ” .. ولكنه ما كاد يمسك بالقلم ليبدأ كتابة أول حرف .. حتى كان الظلام الدامس يخيم على المكان ..
فلقد قام جنود العدو بإطلاق قنابل الغاز السام والدخان القاتل نحونا بكثافة … ورجحت الأمر بأن هذا كان مقصوداً بالفعل من جانب العدو … الذي لم يرق له مشاركة الرجل ومشاركتي في المسيرة .. فآثر أن يقضي على كلينا قبل أن نبدأ المشاركة ؟؟!! .
.. ما كدنا نبتعد عن المكان بعض الشيء بمعاونة الشباب ورجال الإسعاف المشاركين ، حتى كان رجال سيارات الإسعاف يتقدمون نحونا مهرولين من أجل إنقاذنا وإبعادنا عن ساحة المعركة وتقديم بعض الإسعافات الأولية لنا ..
.. ( رجل مسن جاوز السبعين من العمر ) تجرأ على الاقتراب منا .. لاحظت بأنه يحرك لسانه وشفتيه بالبسملة والحوقلة والعذبلة .. وبعض الأدعية التي تقي من الشياطين .. لم يلبث الرجل أن تشجع قليلاً .. تمتم بصوت متحشرج مرتجف :
– من ؟؟؟!!! هل يعقل هذا ؟؟!!
لم يكف الرجل عن الأدعية والبسملة والحوقلة .. خاصة وأنه رأى الرجل الذي كان يقف أمامه يتكلم بلغة البشر ؟؟!! .. واطمأن أكثر عندما ذكر رفيقي اسم الله .. وهو الذي كان يعتقد بأنه شيطان من الجن خرج من القمقم ؟؟!!..
قررت أن نبدأ رحلتنا من جديد .. من الشمال .. شمال قطاع غزة .. فما كان من الرجل إلا أن أخرج أوراقه وأقلامه من جديد .. واستعد للكتابة ..
هاله مشهد الحشد الرهيب .. الذي أتى إلى المكان للمشاركة في المسيرة ..
رحت أشرح له الأمر بالتفصيل .. لم يلبث الرجل أن أغلق دفاتره وأوراقه .. وخبأ أقلامه .. هتف بصوت متحشرج :
– لنرى الأمور على الطبيعة .. على أرض الواقع .
كان موعد الصلاة قد أزف .. انتقلنا إلى مكان قريب .. يشبه الخيمة .. علق الرجل على الأمر ونحن ندخل ما يشبه المسجد لتأدية فريضة الصلاة :
– لقد قرأت عن مثل هذا المسجد في كتب التاريخ القديمة ؟؟!!.
وقفنا في الصف الطويل .. تمهيداً لتأدية الصلاة جماعة .. وقبل أن يبدأ الإمام بتكبيرة الإحرام .. كان الرجل يلتفت نحوي هامساً :
– لماذا أرى كل المصلين هنا يجلسون على المقاعد وعلى الأرض ؟؟!! ..
قبل أن أرد عليه .. كان الإمام يرفع صوته مدوياً بتكبيرة الإحرام ..
بعد أن انتهينا من الصلاة .. حاول الرجل أن يصافح المصلين .. فلم يتمكن من ذلك ؟؟!!.
خرجنا نتلمس الطريق .. فلقد كان الرجل يجيب بنفسه عن الأسئلة التي كان قد طرحها قبل وبعد الصلاة .. فلقد تأكد تماماً بأن من فقد الأطراف السفلية لا يستطيع الوقوف في الصف أثناء الصلاة .. وأن من فقد الأطراف العلوية لا يستطيع المصافحة بعد الصلاة ؟؟!! .
خرجنا إلى المكان الفسيح .. بدا الرجل منهاراً .. لم يستطع أن يفتح كتبه وأوراقه .. ولم يستطع أن يخرج قلمه .. ولم يستطع أن يكتب حرفاً واحداً ..
اقتربت منه فتاة .. صبية .. شابة .. يبدو أنها عرفته .. يبدو أنها قرأت عنه في كتب التاريخ .. هتفت به وهي تجلس على الأرض بين حشد من المشاركين :
– أطمع في توقيعك الكريم سيدي .
التفت الرجل نحوها .. أخرج قلمه .. اقترب منها .. سألها أين تريد أن يضع لها توقيعه ؟؟!! .
قالت له بأنها لم تعد تملك أوراقاً .. فلقد أحرقتها نيران .. ” نيرون ” العصر الحديث .. وأغرقها ” هولاكو ” العهد الجديد في بحر الدماء ..
.. قالت له الفتاة :
– فلتضع توقيعك الكريم على يدي يا سيدي ..
رفع أكمام الثوب عن اليد ليوقع عليها .. وجدها مبتورة وحتى الكتف ..
قالت له الفتاة :
– على يدي الأخرى يا سيدي ..
رفع أكمام الثوب عن اليد الأخرى .. وجدها مبتورة ..
قالت له : على ساقي ..
رفع الرداء ليوقع على الساق .. وجدها مبتورة حتى الحوض ..
قالت له الفتاة :
– على الساق الأخرى ..
رفع الرداء من جديد عن الساق الأخرى .. وجدها مبتورة حتى الحوض أيضاً ..
حسرت الثياب عن صدرها .. كان الصدر بلا أثداء .. ومليون شهادة فخر وعز مرسومة عليه .. قالت له الفتاة :
– على صدري .. هنا .. على قلبي .. فالقلب يا سيدي ما زال سليماً .. ما زال ينبض .
اقترب الرجل من الفتاة .. وقع لها بالبنط العريض ..
” عاشت فلسطين .. عاش الأقصى .. عاشت غزة ” ..
فر الرجل لا يلوي على شيء .. أسرعت باللحاق به صارخاً :
– سيدي .. انتظر … انتظر … لنكمل الرحلة .
لم يلتفت لي .. لم يأبه بصراخي .. ظل يركض .. ويركض .. أسرعت الخطى .. أركض في إثره .. وهو يركض .
وصل الرجل إلى أقصى المكان .. وقف بعيداً عن المكان .. وصلت لاهثاً حيث يقف .. أنفاسي متقطعة .. العرق يتصبب من وجهي وجسدي بغزارة ..
اقتربت من الرجل .. حاولت أن أثنيه عن عزمه .. أن أعيده إلى ميدان المنازلة حيث المسيرة الحاشدة ليكمل توثيق الرحلة .. رفض الرجل بشدة .. تشبث بموقفه .. اندفع الرجل ليبتعد عن المكان لهول ما رآه وما شاهده …
… ثمة العديد من قنابل الغاز السام تنطلق نحوي ونحو الرجل … يصاب الرجل بإصابات مباشرة .. تناثرت الكتب والأوراق على الأرض .. انحنى الرجل على الأرض .. انحنيت إلى جانبه أحاول مساعدته في جمع الأوراق .. نهرني بشدة .. زجرني .. لم يسمح لي بالمساعدة .. أو الاقتراب من أوراقه .. أو مجرد لمسها ..
عدة دقائق مرت .. بعدها كان القصف المدوي لطائرات العدو يتوالى على المكان بوحشية .. فر الجميع من المكان بسرعة ..
ألسنة ضخمة من أعمدة النيران بكل الألوان تعانق السماء ..
.. رجال الإسعاف والطوارئ يقومون بواجبهم بمحاولة إنقاذ الجرحى والمصابين .. وإخلاء الشهداء …
تمكنوا من إخلاء العديد من جثث الشهداء .. وأخيراً .. كانت جثة الرجل تنقل إلى إحدى سيارات الإسعاف .. وكانوا يلقون بي إلى جانبه .. إلى جانب جثته .. أحتضنها .. رحت أبكي بحرقة .. صرخت بكل ما تبقى بي من قوة :
– لا .. لا .. إلا ” ابن بطوطة ” .. لا ..
.. كان الرجل يقبض بشدة على كتبه .. على أوراقه .. على أقلامه .. حتى وهو ميت .. حتى وهو جسد لا ينبض .
خلصت الأوراق .. والكتب من بين يديه بقوة .. بصعوبة ..
فتحت الكتب .. كل الكتب .. فتحت الأوراق .. كل الأوراق ..
وفتحت فاه الدهشة كالأبله .. وأنا أنظر إليها .. أدقق النظر فيها ..
كانت الأوراق كلها .. الكتب كلها ..
بصفحات حمراء .. بلون الدم ؟؟؟؟!!!! ………….