ما تعرفه الساحة الإيرانية الآن من حراك واسع انطلق من مناطق محسوبة على النظام والحوزة الشيعية ومن كل مكوناته الشعبية لنذير بتحول كبير في الشارع الإيراني الذي لا يعتبر مبتدئا في الثورات ولا الحراكات، لكنه ولأول مرة في تاريخه يرفع صوته بهذا الشكل الأجرأ ضد “حاكم” منتخب بإرادة شعبية، وأكثر من ذلك ضد الولي الفقيه الذي تتجاوز سلطته كل السلط داخل منظومة الحكم الإيراني، بما فيها سلطة الرئيس المنتخب ذاته.
قد لا يكون هذا الحراك إلا شرارة جس نبض بين معادلتين تتحكمان في المشهد السياسي الإيراني ولا أقصد بهما المحافظين والإصلاحيين، بل أقصد بها تيار خامينائي بكل أجهزته وقبضته الداخلية وتيار أحمدي نجاد ومن اكتنف بكنفه من أجل العودة إلى المشهد السياسي الإيراني بسلطات تامة للمؤسسة الرئاسية الإيرانية التي اختنقت بسلطة وصلاحيات الولي الفقيه. غير أن شرارة الثورة الداخلية التي ليس هدفها تغيير النظام -فشئنا أم أبينا النظام السياسي الإيراني هو “شكليا” نظام رئاسي أو بشكل أدق شبه سياسي منتخب مباشرة من طرف الشعب، والحاكم فيه لا يتولى الكرسي كما في بقية الدول الإسلامية مدى الحياة ولا يورثه، بل أن مدة الولاية الرئاسية محددة لفترة زمنية-. الاستثناء الأخطر هو شكلية هذه المؤسسة الرئاسية أمام سلطة ونفوذ ولاية الفقيه التي تدوم مدى حياة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية.
قد تكون إذاً هذه الموجة مجرد تصفية حسابات بين قطبين داخل المنظومة الإيرانية المعادية للعالم العربي وآماله في التغيير الذي تجسد فيما عرفه بدوره في ربيعه الموءود بأيادي أعدائه وإيران من أبرزهم، لكنها موجة حركت الماء الراكد في قاع مظلومية المجتمع الإيراني بغض النظر عن دوافعها. فلحم مدافع الثورات دائما هو الطبقة المستضعفة في أي مجتمع، والطبقة المحرومة من العدالة الاجتماعية والإنصاف وما أكبر قاعدتها في إيران. فالهاتفون ضد “الوضع الإيراني” تطوروا بسرعة البرق من رفع شعارات مطلبية عادية كما في أغلب الحركات الاحتجاجية التي رفعها العرب خلال ربيعهم المجهض لتتطور في أقل من ثلاثة أيام أو أقل إلى مطالبة برحيل “روحاني”، بل أكثر من ذلك ولأول مرة في عُرف الاحتجاجات الشعبية الإيرانية إلى رحيل “علي خامينائي”.
الشعب الإيراني يبدو منسجما مع مطالبه بتركيزه على تنمية الداخل وإعادة توجيه المال “الثوري” إلى إيران، ذلك المال الذي أصبح يهدر فقط على أنشطة الدولة أو بشكل أدق “صاحب مؤسسة الإرشاد” بشكل طائفي مقيت معلن على مخالب إيران الخارجية التي سيطرت بها على مساحة كبيرة من المنطقة العربية والتي تحاول بها الاستمرار في تلك السيطرة، بدءا بالعراق عقدتها القديمة الحديثة ولبنان وسوريا وأخيرا وليس آخرا اليمن، مرورا بخلاياها النائمة والمتفجرة بين الفينة والأخرى بمنطقة الخليج خاصة، كما هو الحال في البحرين والسعودية ثم الإمارات العربية المتحدة وغيرها.
إن التحدي الأكبر الآن هو مدى وعي الشارع الإيراني بمعركته المصيرية هذه، فنجاح ثورته من عدمها ستكون له انعكاسات سلبا كان أو إيجابا على ثورات العرب القائمة بعد وخاصة ثورة سوريا ومعها ثورة اليمن، كما يجب أن يعي تماما أن الثورة هي على الدستور الإيراني ومؤسسة الإرشاد أكثر منها على “الرئيس” المنتخب بشكل ديموقراطي -شئنا أم أبينا-، لأنه ما دام لم يسقط الولي الفقيه من سدة عرشه الديكتاتوري، فإن كل من سيسقط دونه لن يعدو أن يكون قربانا تتم التضحية به في سبيل مد عمره وسلطته، ولو كان روحاني بل ولو كان قاسم سليماني نفسه.
وكلمة إلى الشعب العربي الأحوازي، الذي يجب أن يعي أيضا مدى أهمية الوضع وخطورته، ألا يستبق الأحداث والوقائع باتخاذ خطوات غير محسوبة العواقب، وأقصد بها الخروج عن إجماع الحراك الشعبي والتعجل بالمطالبة بتقرير المصير أو الانفصال، فقد تُغير هذه الخطوة من مجرى الأحداث وتعزله عن الإطار العام الذي نحسبه ثورة عارمة ضد المشروع الفارسي التوسعي، ولن تكون سوى سبب في إدخال مشروعه هو في نفق الإخفاق ووعود الدول الكاذبة في زعمها مساندته في نيل حقه وتقرير مصيره، تماما كما حدث مع كثير من الحركات الكردية التحررية، والتي أصبحت للأسف الشديد في ظل هيمنة أجهزة المخابرات العالمية المتربصة بالمنطقة العربية، مجرد ميليشيات مسلحة لتنفيذ أجندات هذه الدول الاستعمارية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل.
وسواء نجحت الثورة الإيرانية أم أخفقت -ولن تكون ثورة سلمية كما ثورة 1979، فإن تأثيرها على المنطقة الشرق-أوسطية سيكون كبيرا، فإيران لعبت بالنار حينما حولت نفسها من دولة تقلد نفسها كراعية للثورات التحررية الإسلامية ضد المستعمر الإسرائيلي ومن خلفه الأمريكي والتي طالما تبجحت برفع شعارات –رسميا- من قبيل “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”، أخفقت في أول امتحان علني لها حينما تاقت الشعوب العربية إلى الحرية، الشعوب التي طالما دأبت إيران نفسُها على نقل شرارة ثورتها إليها (لإخراجها) من قمقم الطغيان والاستبداد العربيين الرسميين، فكانت هي للأسف اليد الحديدية التي ضربت على إرادة هذه الشعوب العربية التي حملت لواء الربيع والورود منذ ثورة تونس حتى ثورة اليمن، فقط لأن هذه الثورات أفرزت مشروعا إسلاميا معتدلا لكنه يتعارض كل الاعتراض مع التوجه الشيعي المتطرف الذي حاولت تثبيته في المنطقة.
لم تكن إيران وحدها رائدة الثورات المضادة ضد جنوح الشارع العربي إلى الانعتاق والحرية، بل ساندتها في ذلك ولو على غير القدم نفسه دول البيترودولار وعلى رأسها الإمارات العربية والسعودية، مما جلب إلى المنطقة الدب الروسي الذي ما زال يحمل في جلده السميك آثار سيوف “المجاهدين العرب” في أفغانستان والشيشان، والذي وجد في الساحة السورية فرصة للثأر لهزائمه العتيقة منهم. وجلب بدوره نده الآخر على الضفة الأخرى من الأطلنتي الولايات المتحدة التي زعمت أنها وقفت مع الطرف الآخر، محاولة مرة أخرى استعماله في إيقاف المد الروسي وخلط الأوراق من خلال خلق معارضة مسلحة له لكن أشد شراسة من “القاعدة”، فكانت “داعش”، التي يبدو أن مهمتها قد انتهت. ولمواجهة المرحلة الجديدة من الصراع في إيران والشرق الأوسط وباعتبار أن الحرب القادمة يراد لها أن تكون طائفية ودموية أكثر، فلابد من إخراج تنظيم مخابراتي جديد يحسن تحقيق أجندة الولايات المتحدة في مواجهة الدب الروسي الذي لا شك سيدخل على خط المعركة لتثبيت دعائم عرش الولي الفقيه كما دعم أركان حكم بشار الأسد، وهذا التنظيم هناك إشارات عديدة تلمح على أنه سيكون تحت مسمى “جيش خراسان” أو مسمى مشابه له، وقد كانت بداية التدخل الأمريكي زعم رئيس الولايات المتحدة وقوفه إلى جانب إرادة التغيير في إيران.
ما يجب أن يحذر منه الشارع الإيراني هو خطورة الوضع داخل الأراضي المحتلة بعد إعلان دونالد ترامب مدينة القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وخاصة داخل غزة والتي نذير استهدافها عسكريا بعدوان صهيوني جديد على الأبواب، إذ يجب تحييد غزة من معادلة رفع الدعم الحالي للحركات خارج إيران الذي طالب الثوار الإيرانيون به، فالحركات المقاومة فعلا للمشروع الصهيوني يجب أن تحافظ على وضعها القائم، بل يجب أن تُدعم أكثر بعيدا عن المزايدات لكيلا تخسر موقع أقدامها في المواجهات القادمة الوشيكة، ففلسطين والقدس قضيتان عربيتان إسلاميتان لابد من دعمهما فوق كل اعتبار.
ولمن يسأل عن مصير (حزب الله) اللبناني سابقا “الخامينائي” حاليا، فهذا سيكون امتحان الثورة الشعبية الإيرانية إن كُتب لها النجاح، فهل ستستطيع خلع حلته الطائفية عنه وإعادته إلى دوره “الطبيعي” المعلن عنه في بداية تأسيسه ألا وهو مقاومة المحتل في الجنوب اللبناني أم لا، وتحييد سلاحه حتى عن الممارسة السياسية داخل المشهد السياسي اللبناني؟ بكل تأكيد لن يتم هذا التحول إلا إذا اقترن بإرادة حقيقية في تغيير قياداته المتواطئة في الدم العربي المسلم وغير المسلم، وإلا فإن تاريخ الطائفية المقيت سيعيد إنتاج نفسه تحت أي مسمى آخر!!!