أطلال مصر الجديدة – عبد الرحمان يوسف

0
149

هل تعرف عزيزي القارئ حي مصر الجديدة في القاهرة؟ هل زرت هذا الحي الجميل قبل ذلك؟
إذا لم تكن تعرفه فدعني أحدثك عنه قليلا.. وإذا كنت من الذين زاروه أو عرفوه.. فأنت سيئ الحظ، لأن ما يحدث فيه يشبه أن ترى قطيعا من الضباع تلتهم طفلة صغيرة حية بينك وبينها صلة قرابة، وهي لا تقوى حتى على الصراخ.
أنشأه البارون البلجيكي “إمبان”، عام 1905، كان مشروعا إسكانيا متكاملا، ستستغرب من دقة الرؤية المعمارية لهذا المشروع.
كان أضخم قصور الحي هو قصر البارون “إمبان”، وهو ذو طراز فريد، يجمع بين عدة طرز معمارية في تصميم واحد، أهمها الطراز الهندي، والأوروبي.
انتهى بناء القصر في عام 1911م، وقبلها بعام امتد مترو مصر الجديدة ليربط تلك الضاحية الصحراوية البعيدة بالقاهرة.
كان البارون ذكيا، فأسس العديد من النماذج المعمارية، فكانت المنطقة التي تحيط بقصره مخصصة للأثرياء، لذلك ستجد فيها الكثير من القصور الضخمة، مثل قصر السلطان حسين الذي سكنه حاكم مصر (السلطان حسين كامل سلطان مصر، حكم منذ 1914م، حتى 1917م).
أصبح القصر مدرسة، بعد انقلاب يوليو 1952م.. وأمام القصر سترى مسجد السلطان حسين، وهو على ناصية شارعي الثورة وصلاح سالم.. يقال إن هذا المسجد كان داخل القصر في وقت حكم السلطان، ولست متأكدا من دقة المعلومة.
ستجد قصورا ضخمة في هذه المنطقة، في شارع رمسيس (ليس الشارع الشهير، بل شارع آخر في منطقة الكوربة)، وشارع كليوباترا، وستجد كثيرا من القصور على الشارع الرئيسي، شارع صلاح سالم.
حين سكن السلطان حسين كامل هذه المنطقة انتقلت الحاشية معه، واشتروا القصور ليكونوا “قربى” السلطان، ومن هنا أطلق على هذه المنطقة اسم “القربى”، ومع الزمن تحولت إلى “الكوربة”!
ستجد عدة روايات في شأن تسمية هذه المنطقة (من ضمنها أنها كلمة إيطالية بمعنى المنحنى، بسبب انحناء مسار الترام في تلك المنطقة)، ولكن هذه هي الرواية الراجحة في رأيي، سمعتها بنفسي من جدة كبيرة في تسعينيات القرن الماضي، وكانت على مشارف عامها الثامن والتسعين، وأكدت أن كلمة “الكوربة”.. جاءت من “القربى”!
ستجد في تلك المنطقة بعض البيوت الصغيرة، أشبه بفلل صغيرة (في شارع القمر مثلا)، وهذه البيوت كانت مخصصة للخدم، والموظفين الذين يخدمون أصحاب القصور الكبيرة.
بنى البارون كذلك نموذج “الفيلا الكبيرة”، ستجد هذا النموذج في الجانب الآخر من القصر، باتجاه المطار، حول فندق “ميريديان”، وباتجاه نادي الجلاء.. شارع البادية، وشارع محمد فريد، ستجد بعض هذه الفلل في شارع الحرية وشارع عمر بن الخطاب وغيرها.. كانت هذه المنطقة تزهو بهذه الفلل الكبيرة، قبل أن يتم هدمها وبناء عمارات قميئة لعلية القوم.. على أنقاض هذه الفلل الجميلة بنيت عقارات يسكن فيها أمثال صفوت الشريف، وزكريا عزمي، وجمال وعلاء مبارك!
من ضمن النماذج الجميلة التي ابتكرها البارون نموذج “الفيلا الصغيرة”، وستجدها في أماكن كثيرة في مصر الجديدة.. بعضها كما قلت حول القصور الكبيرة، لكي يقيم فيها حاشية الكبار.
وبعضها كان للسكن، فترى منطقة كاملة يغلب عليها هذا الطابع، أعني طابع الفلل التي لا يتجاوز حجم الأرض فيها (700 متر مربع) مثلا، سترى ذلك بوضوح في المناطق المقابلة لفندق الميريديان (أو هكذا كانت قبل تدميرها).
النموذج الأخير للفلل.. هو “الفيلا التوين”.. التوأم!
لم أر هذا النموذج في مصر الجديدة إلا في شارع واحد، شارع بيروت، ستجده من بدايته عند حديقة الميريلاند، وقد تم القضاء على هذا النموذج النادر في مصر الجديدة منذ زمن طويل..
كان هذا النموذج عبارة عن فيلاتين متلاصقتين، وبينهما حديقة مشتركة.. أو حديقة يقسمها سور منخفض.. وكانت تلك البيوت من أجمل ما يمكن، فالحديقة كانت تمتد أمام المنزل بشكل يتيح خصوصية للساكن، وبشكل يبعد ضجيج الشارع عن المنزل.

* * *

كل ما سبق كان عن فلل مصر الجديدة، ولكن هل كانت مصر الجديدة فللا؟
الحقيقة أن غالبية ذلك الحي كان عمارات، وكانت الشقق تبدأ من الشقق الفاخرة الملوكية، وهذه كانت في منطق الكوربة، شارع بغداد، وشارع إبراهيم.. في هذه الشقق الكبيرة، التي لا تقل عن 350 مترا مربعا، ستجد فخامة، واتساعا، وحمامات تركية، وبعضها كانت له حدائق خاصة، وجمالا لا تتخيله..
كل ذلك في عمارات منخفضة الأدوار، لا يزيد ارتفاعها عن ثلاثة أدوار..
ويصل التنوع بالشقق في هذا الحي إلى أن تصل إلى المستوى الشعبي، في منطقة مثل “ميدان الجامع”.. طبعا أتحدث عن مستوى “شعبي” بمقاييس تلك الفترة، وبمقاييس البارون “إمبان”!
فهذه الشقق “الشعبية” تعتبر في غاية الروعة مقارنة بما نراه اليوم، ولا يعيبها إلا الإهمال وسوء الصيانة الممتد لعشرات السنين.
الشركة التي قامت ببناء هذه العقارات (الفلل والشقق) استخدمت الخامات المحلية بشكل أساسي، فكثير من الحوائط الداخلية والخارجية كانت بلون الصحراء، وباستخدام “الفطيسة الإسكندراني”، وهي خامة تفيد مع حشرات الصحراء، والناموس.
كما أن حوائط غالبية هذه المباني بنيت بحيث تعزل الصوت والحرارة (حرا وبردا).
ستجد خامات أجنبية في غاية الفخامة، في أرضيات الرخام، وفي إكسسوارات الحمامات وغيرها، ولكن أساس البناء كان يعتمد على الخامات المحلية الملائمة للبيئة والطقس، وهو ما يضمن تكلفة معقولة أيضا.
* * *
اليوم.. يتعرض حي مصر الجديدة لاعتداء صارخ، وذلك بمشروع ما يسمى بكوبري “البازيليك”، وهو تدمير ممنهج بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي.
“البازيليك” هي كنيسة ذات طراز معماري فريد، فيها دفن البارون “إمبان” مؤسس مصر الجديدة، وهي منطقة ما زال فيها الكثير من جمال مصر الجديدة الذي شوهته أيادي السلطة عبر عشرات السنين من الاعتداءات!
وحين يراقب المرء هذه المنطقة يرى بما لا يدع مجالا للشك أن الهدف الوحيد الذي يمكن أن يتحقق من إنشاء هذا الكوبري هو القبح!
فلا يوجد تكدس مروري، ولا توجد أي مشكلة تستدعي إقامة هذا الكوبري في هذه المنطقة شديدة الجمال، اللهم إلا أن يكون هناك ثأر مع الأصالة والجمال.

* * *

إذا كانت هذه المقالة تحاول أن تتحدث عن بعض تاريخ حي مصر الجديدة، فإنه لا بد أن أذكر أن أي محاولة لتصوير تاريخ الاعتداءات المنظمة على ذلك الحي قد بدأت مؤخرا تعتبر تزويرا للتاريخ، لأن الاعتداء على هذا الحي الفريد قد بدأ منذ عشرات السنين. صحيح أن الاعتداء أصبحت أكثر كثافة، ولكن تأكد عزيزي القارئ أن تاريخ الاعتداء بدأ من الخمسينيات، ولم يعرف حي مصر الجديدة اعتداء بالهدم والتشويه مثلما عرفه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وبإشراف زوجته “سوزان”، تلك المرأة التي كانت ترأس ما يسمى بجمعية مصر الجديدة، وأقامت احتفالية للاحتفال بمئوية مصر الجديدة في عام 2005م. والحقيقة أن بلدوزرات الهدم كانت تعمل على قدم وساق بإشرافها شخصيا، وباستثناءات لكبار رجال الأعمال من أصدقاء زوجها وأبنائها.
إياك أن تعتقد عزيزي القارئ أن سوزان مبارك كانت حريصة على هذا الحي، لقد ظل قصر البارون مفتوحا للناهبين عشرات السنين. لي أصدقاء لديهم بعض التماثيل التي أخذوها من هذا القصر، أحدهم قال لي حين عاتبته على الاستيلاء على تمثال: “أنا أعرف قيمة هذا التمثال، وسأحتفظ به قبل أن يستولي عليه من لا يعرف قيمته، أو قبل أن تدمره يد عابثة لا تبالي بقيمته”.. واحترت كيف أرد عليه!
في تلك الفترة المشؤومة هدمت مئات الفيلات ذات الطراز المعماري المتميز، وهدمت عشرات القصور النادرة، وظهر للوجود كائنات خرسانية يستحيل الحياة فيها، فلا الشوارع ولا المرافق تتحمل هذا العدد المهول من الطوابق، ولا هذا العدد غير المنطقي من الوحدات السكنية، التي تحوي عددا من البشر يستخدم عربات بلا حصر، ويعتدي على كل ما في هذا المكان الجميل.
بل بلغ حد الاعتداء أن أقيم جسر غبي في شارع الميرغني، في عام 2004م على ما أذكر، وهو جسر في شارع لم يعرف فيه أي شكل من أشكال الازدحام، وقام العباقرة بنقل خط الترام فوق الكوبري، فأصبح ذلك الترام القديم يعاني معاناة لا مثيل لها ليصعد هذا الجسر، كل ذلك دون أن يعرف أحد سببا لبناء الجسر أصلا، وما زال لغزا غامضا حتى اليوم!
إن الاعتداءات على حي مصر الجديدة في عصر المخلوع مبارك كانت فوق التصور، وكان كثير منها بلا مبرر، وما زلت حتى اليوم لا أفهم لماذا قطعوا أشجار الكافور حول نادي هليوبوليس في عام 2007م؟ أشجار عمرها قرن من الزمان، ما الذي يؤذيكم يا دعاة القبح في رؤية هذه الأشجار في مكانها؟
في ختام هذه الذكريات.. ما زلت أذكر صديقا عزيزا.. ولد ونشأ في فيلا في مصر الجديدة، وبعد رحيل والديه، وبعد أن أصبحت تلك الفيلا إرثا لمجموعة ورثة متشاكسين.. ما زلت أذكره وهو يرجوني باكيا: “أرجوك.. ابحث لي عن مشترٍ لهذه الفيلا.. سأتنازل عن نصيبي في العقار.. شريطة أن يكون مشتريا لا يرغب في هدمها”!
كان جوابي: “الشخص الوحيد الذي يرغب في شراء هذه الفيلا ليسكن فيها، ويحافظ عليها، هو أنا.. وللأسف.. أنا لا أملك ثمنها يا صديقي”!
لعن الله هؤلاء الذين شوهوا كل جميل في بلدنا، وما زالوا يحملون القبح في ضمائرهم، وينشرونه في كل حياتنا..
لقد زرت دولا عربية وغير عربية كثيرة حكمها العسكر، ولكني لم أر حكما بلغ في قبحه قبح حكم العسكر في مصر، لقد تمشيت في وسط البلد في الجزائر (على سبيل المثال)، وما زالت جميع البنايات التي بناها الفرنسيون كما هي، صحيح أن بعضها مهمل، ويحتاج لصيانة، ولكن أحدا لم يتجرأ على هدم بناء قديم، أو إقامة جسر يشوه به وجه المدينة الجميل!
أسأل الله أن يخلص مصر من هذا الكابوس.. قبل أن نفيق في يوم لنرى الأهرام وقد هدمت لإنشاء نفق.. أو لإقامة ملهى ليلي.
لك الله يا مصر!

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here