من الواجب أن يهتم أدبنا بمختلف أنواعه من شعر وقصة ورواية بالمادة العلمية، يقول البعض: لو استعملت المادة العلمية في الإنتاج الأدبي فقد الأدب نفسه وحيويته وانتقل من عالم إلى عالم آخر..
وفقا لتعريف الأدب يبدو هذا القول صائبا إلى حد بعيد، لأن كما هو معروف أن الفن هو ما أحسه الفنان ونقله بنفس الشعور والإحساس إلى الفرد بحيث يجعله يحس ويستجيب لأفكار الفنان.. ولكن قبل كل شيء يجب أن نفهم أن دور الأدب هو غرس شيء ما في الفرد وتصليحه سواء نفسيا أو وجدانيا أو سياسيا أو ثقافيا..
إذن انطلاقا من هذه الفكرة وجب واستلزم على أدبنا المعاصر أن يتماشى مع الظروف الفكرية للمجتمع، مع مراعاة ما وصل إليه الفكر الإنساني المعاصر.
نعرف جيدا أن التكنولوجيا قد غزت العالم، فهنا يستلزم على الأديب أو الفنان أن يخاطب التكنولوجيا، وبتعبير أدق أن يخاطب العقول قبل كل شيء، حتى يتمكن من الوصول إلى الهدف..
فمثلا لو دققنا النظر في هذا البيت الشعري:
الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعدت شعبا طيب الأعراق
فحافظ إبراهيم في هذا البيت يريد أن يبرز دور الأم في تربية الأجيال، و لكن أجد أن هذا البيت لا يتعدى فوهة الأذن وبالتالي لا يصل إلى الدماغ، فكيف يتحرك القلب وتستجيب المشاعر؟؟
إن الفكرة التي جاءت في البيت جاءت كنتيجة، وكان من المفروض أن يكون البيت يهدف إلى ذكر تجربة مرت، حتى يتمكن القارئ من استيعاب هذه النتيجة..
إن الأدب في وقتنا المعاصر وعند الدول الراقية أدبا قد خرج من دائرة هذه الكلاسيكية التعبيرية اللفظية ودخل العالم المنهج التجريبي الأدبي انطلاقا من الحدث الذي يعتبر كالصدمة مرت بالكاتب يليها البحث عن الفرضيات، والتي تعتبر كحوار يجريه الأديب مع نفسه، ويتساءل عن السبب، بعد ذلك يلقي بهذه الفرضيات إلى حيز التجربة..، وهنا عندما أقول التجربة: ففي الأدب أقصد بها دراسة الصدمة من كل جوانبها قبل الحكم عليها نهائيا وإعطاء النتيجة النهائية ..
إلا أن أغلبية أدبائنا في وطننا العربي يعطون النتائج ويكتفون بها، وهذا ما يلاحظ في أغلبية قصائدنا وقصصنا ورواياتنا وبالتالي لا يمكن أن نؤثر على القارئ دون أن نبرز له جوانب التجربة، وحتى النتيجة يمكن الاستغناء عنها في حالة إظهار التجربة لترك النتائج للقارئ..
هذا من حيث منهجية التأليف والإبداع، لكن ثمة موضوع آخر قد يبدو تافها ولكن أرشحه لأن يكون من بين شؤون الأدب المعاصر.. بحيث نجد أن أغلبية المبدعين في عصرنا يهملون اللغة العلمية ويحاولون بناء إبداعاتهم وفقا للألفاظ مع الاهتمام الكلي بالجانب الفني، ولكننا حاليا نحتاج اللفظ العلمي، وهنا أتذكر حوارا طريفا جمعني مع أحد الأدباء الشباب وهو يتناول بين يديه قصيدة نثرية كنت قد كتبتها منذ مدة وكانت تحتوي على كلمات علمية عديدة من بينها: الكلور.. الكلوروفورم.. التامور.. فبعدما قرأها قال لي هل هذه قصيدة أم وصفة طبية؟؟
إن الأدب هو جزء لا يتجزأ من التطور اللفظي والتعبيري.. ونظرا لتطور اللغة وأخذها الصيغة العلمية أصبح حتميا على الأدب أن يتصف بالروح العلمية سواء الفكرية أو التعبيرية، خاصة إذا أردنا من أدبنا العربي أن يصل إلى أوجه وأن تكون له كلمة في الأدب العالمي، وقد يؤدي الضعف العلمي في اللفظ إلى ضعف فكري..
أتذكر وأنا أتصفح إحدى القصص أني وجدت صاحبها يقول: (النوافذ مغلقة.. كل شيء في الغرفة مغلق.. وهي ممتدة على سريرها وشعرها يتطاير من شدة الريح..).
فما يمكن استنتاجه من هذه العبارة هو أن صاحبها وقع في هفوة فكرية علمية خطيرة جدا.. فكيف يمكن لشعرها أن يتطاير وكل شيء مغلق، اللهم إلا إذا كانت الغرفة تحتوي على غلاف جوي وضغط متعاكس..
تقريبا نفس السقوط العلمي نجده عند الأديبة (غادة السمان) رغم أنها تمتلك ثقافة علمية واسعة وهذا ما يظهر جليا في كتاباتها خاصة أعمالها: (عيناك قدري.. لا بحر في بيروت.. رجل المرافئ القديمة).
تقول -غادة السمان- في إحدى عباراتها من روايتها (كوابيس بيروت): “في الظلام شربت قليلا من الماء، ورغم العتمة شعرت بالكلس ألا مرئي يلتصق بلساني”.
نعرف أن الكلس صخر على شكل حبيبات وبلورات متراصة غير براقة فهو غير مرئي، فهنا لا معنى لكلمة ألا مرئي ما دام ليس هناك صنفان من الكلس هذا من جهة، أما إذا كانت تقصد بكلمة لا مرئي شيئا غير ظاهر فالكلمة ليست في محلها لأنه سبقت في الجملة كلمة (الظلام)، فقد وصفت الفترة الزمنية التي شربت فيها الماء، فلا داعي للتأكيد مرة ثانية..
طبعا هناك العديد من الأدباء العرب ممن سقطوا في أحضان الأخطاء العلمية وهذا ربما قد يشوه أفكار القراء علميا، وأعتبر ذلك خطأ فادحا لا بد من اجتنابه، ولا يستطيع الأدب العربي بمختلف فنونه أن يخدم المجتمع وأن يصل إلى ذروته إن لم يعتن بهذه الناحية، وأن يجعل منها مادته الخامة في الكتابة والتأليف والإبداع.