طفولة هائمة – محمد البغوري

0
1250

 

أتيه في ضجيج الصمت.. القرية تعتصرني بكل صفات الأحاسيس.. أطرب لكل حركة. على إصباحات القرية أبدأ نهاري، أتوجه لتلك البقعة الواقعة بباب منزل خالتي.كنت أقصد زقاقا غاصا بالحجارة المتباينة الأشكال والأحجام والألوان.. أمكث هناك أفتش عن تلك الحجارة التي تشبه سيارة، أو شاحنة، أو حافلة. وكم كنت أعثر على ضالتي، وأظفر في العثور على مطلوبي من الحجارة.. أشرع في لعبتي التي تروق لي بالبقعة. بالحجارة المنتقاة بعناية الصغار، أسافر على متن خيالي لمدن تربع اسمها على ذاكرة سمعي. أسماء التقطتها أذني من خالتي وجدتي، أو أمي وأبي. خالتي هي التي كانت تفتح شهيتي على عوالم المدينة الفاتنة. ستكبر يا بني، وستواصل دراستك بعزم واجتهاد، وتسافر إلى مدينة الرباط، أو فاس، أو مراكش.. أو غيرها.

أرد على خالتي بدهشة الصغار، وأين توجد هذه المدن يا خالتي؟ وكيف هي في اللون والمذاق والخطوط والنقط والفواصل، والمشاعر والهندسة؟ وهل يسكنها الناس، أم كائنات أخرى؟ كنت أخالها أشباحا، أو كائنات غريبة..؟ وهل في مدينة الرباط وفاس ومراكش، يا خالتي حلوى كثيرة ولذيذة؟

خالتي تهيج جنون الطفل، ويسحرني جوابها أكثر.. أشهق بالفرح والآمال العريضة.. أطلق ساقي لفراغات ممتلئة بالضحك. أحاسيس وانفعالات تغيبني عني بالأقساط والجملة.. ترمي بي في الثلث الخالي.. تواصل خالتي البحث عني فيما غيبني.. مهلا عليك يا ولدي، أين ذهبت؟ وما الذي أصابك؟

طفل صغير لا تعييه الشمس اللافحة. همه الوحيد أن يختلط بأصدقائه.. يلعبون ويمرحون.. ينتقلون من هذا المكان إلى مكان آخر. بل أمكنة كثيرة ومتعددة. يغادرون القرية لجهات بعيدة.. ينتقلون من هضبة إلى سفح. ومن سفح إلى سهل غطيس، تطويه الهضاب، وشبه الجبال في قيعانها.. يلهو الأطفال بكل ما تقع عليه أيديهم، وعقولهم، من الأشياء والهوامل وبقايا متلاشية.. فرحة مدهشة تغمرنا ونحن نصغي لسمفونية الصرار، صوته يعلو ويزيد بين الفينة والأخرى، تقول جدتي: أن الشمس تشتد اتقادا وحرارة كلما ارتفع صوت الصرار.. نتسابق من أجل أن نمسك به، وهو ملتصق بجذوع الأشجار وأغصانها، يفلت من ترصدنا وهجومنا. قليلة هي المرات التي نظفر فيها به، ونلقي القبض عليه.. نستقبل صفيرا شاردا ومتقطعا، تأتي به هبات الرياح الحارة والجافة. معلنة أن راعيا يثوي ويقبع في جهة من جهات هذه القفار المنسية، في الفراغ والوحشة والصيف الطويل والمخيف.. يتوه الأطفال في هذه العوالم. لا شغل لهم، ولا هم ينتبهون لساعات النهار التي تذهب مع الرياح سدى، لا نفيق، ولا نتحرر من أسر تيهنا ومتاهاتنا، إلا والشمس غاربة مودعة، تفسح المجال لليل يقال عنه: أنه قصير، كثير المفاجآت، ملتبس الأصوات، مخيف الإحساس، مختلط على العقل والوجدان، مدلهم الأسرار ومثير الأسئلة.. الليل عالم رهيب ومرعب في القرية، يحمل لنا نحن لأطفال صورا مزعجة: حيوانات ضالة، هسيس الحشرات التي كثيرا ما كانت تفسد علينا السير ليلا. خروج الأصوات من المقبرة المنزوية أسفل أقدام القرية، المتهجدة في سباتها الطويل والمظلم.. طيور ليلية، لا نهتدي لعناوينها من النوع والصوت واللون والحجم.. من تيه لتيه نتوه. بهذه الصورة نقضي نهارات الصيف، لا نرجع لمنازلنا، إلا ونحن نتضور جوعا، والأدهى في الأمر كله، أن العياء يغلبنا أثناء العودة، ويأخذ منا كل مأخذ، يتمكن من أجسادنا الرخوة الصغيرة.. منهكين، خائري القوى وكأننا رجعنا من وغى شديدة ورهيبة.. نجهد فيما تبقى لنا من قوة للالتحاق بأوكارنا التي بدأ الليل يغشى كل جنباتها، ويغلفها بألوانه السوداء.. يحيطها بخوار الأبقار وثغاء الغنم، وصهيل الخيول، وقوقأة دجاجة ألهاها وشغلها ديك أخرس، مزهو بنفسه، فتأخرت عن موعد بياتها فوق شجرة الدردار الصفراء أوراقها، اعتادت زرافات الدجاج والديكة أن تنام فوق أغصانها.. نخاف من نباح الكلاب، وخوفنا الأكبر والصاعق من الأب والأم.. ينتظرنا الأب عند دكة المنزل وهو يزمجر، وأسنانه تصطك.. الأم تولول وتتوعد.. لكنها من فرق شعرها حتى أخمص قدميها غارقة في إعداد عشاء الليلة البئيس. لا يشبع نهمنا، ولا يشعرنا بلذة أكله.. طفولة القرية موئل لمواويل التيه الجميل، وذكريات الحسرة الواعدة. فمن منا لا يكتوي بزئبق الحنين والشوق لقريته الأولى، مرممة البذور ومولعة الجذور، وحاضنة الصبا والطفولة.. قد نختلف ونفترق مع العقل والمدينة، لنتفق ونعانق الخيال والقرية.. لكن لا ننسى الطفولة الهائمة..

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here