الشاعر مثقفا (5) – ناصر رمضان عبد الحميد

0
1780
الثقافة كلمة يصعب تعريفها، وتتداخل فيها عوامل لا حصر لها، فأحيانا  تحصل من  الكتب وأحيانا من الاشتباك مع الحياة والأحداث والواقع، وأحيانا من مشاهدة فيلم أو الاطلاع على رواية. والتربية الثقافية تحتاج إلى مناخ عام، فالثقافة هي الحضن والحصن للإنسان من الانجراف والانحراف والتطرف، وتعني في بساطة التنوع وقبول الآخر والتعايش والتعددية وقبول المخالف، وتعني المرونة. وكلها أمور تكتسب من الاطلاع والاحتكاك والتربية.
إن مصطلح الثقافة قديما كان يطلق على الأدب، شأنه في ذلك شأن مصطلح الكاتب.
فالأدب قديما يطلق ويراد به شيء غير ما نفهمه الآن، فصبح الأعشى كتاب في كل أمور الحكم والسياسة والملبس والإدارة والوزارت إلخ.. وكان يطلق عليه كتاب في الأدب وهو أوسع من فنون الأدب والسياسية، بل هو كتاب شامل لكل فنون الحياة.
إن كلمة الثقافة التي أعنيها للشاعر هي الإلمام باللغة العربية قدر المستطاع والاطلاع على ما كتب من شعر ونثر من تراث الأجداد، وقد يوجد ذلك في كتب التراجم وكتب التفسير، فالأمر ليس قاصرا على دواوين الشعر.
ويستحسن تعلم لغة (أجنبية) والقراءة بها شعرا ونثرا، وإن كنت أرى أنه بعد عهد قصير، سوف لا يحتاج إلى تعلم اللغة إلا للضروة، لأنه بالإمكان أن أتواصل مع جميع العالم من خلال الهاتف الجوال وبرامج الترجمة كتابة وصوتا.
إن انفصال الشباب عن الشعر الجاهلي سببه ضعف اللغة وبعدهم عن اللسان العربي،  شأنهم في ذلك شأن الذين ينادون بقصيدة النثر، وحجتهم أنها أفق مفتوح، في إشارة إلى أنهم يستطيعون أن يكتبوا دون قيد الوزن والقافية تعريضا بالشعر العمودي أو التفعيلة، وهذا وهم سببه ضعف الأذن الموسيقة والحس الموسيقى لديهم، فشوقي كتب في كل شيء ومثله حافظ إبراهيم، ومحمود حسن إسماعيل، ونزار قباني وصلاح عبد الصبور.
إن الشعر ثقافة تجعل النص حيا طريا نديا، أما الجهل والضعف فيجعلان النص مهلهلا وحائرا لا يطرب ولا بقاء له.
في عدد مجلة الهلال مارس 2019 كتب أحدهم يهذي شعرا وما هو بشعر:
أنت تشبهني
وأنا أشبه الكسل
أنا أتحدث كالمجنون
كلنا يشعر بالسأم
إلى آخر هذا العبث.
ولك أن تحكم أي شعر هذا وأي ثقافة وأي لغة تستبطن سوى الضعف والكسل والفشل، حتى من ينادون بالموسيقى الداخلية جلست أبحث عنها في صورة آخذة أو معنى رمزي فلم أجدها.
أعرف أن هناك من شعراء العمودي من وقفوا (محلك سر) وغلبت عليهم التقليدية والصنعة وهم بلا عد، لكن هذا ليس دافعا إلى الهروب للبعث وإلا أصبحنا كالمستجير من الرمضاء بالنار. إنها قضية الأفق المفتوح، قضية خادعة، فالأفق في كل الفنون يكره الإغلاق، والفن لا حد له، والعبارة تضيق  كلما اتسعت الثقافة 
على عكس ما يفهم الناس. فالثقافة، والشعر إيجاز وإعجاز وإدهاش وحركة تجري داخل المعنى فتفجر الطاقات لدى الشاعر وتكتب ما يحس وما يشعر، إن حركة المعنى هي الأساس وليست الألفاظ، وما الموسيقى سوى طرق لتنبيهه الأذن لتسمع وتستمتع وتسبح في بحر اللغة.
فحشر الألفاظ ورصها دون معنى بحجة الأفق المفتوح دمار للغة والشعر والذوق.
إن قضية الشعر ليست في أفقه وإنما في معناه ومقاصده.
فالنظرة المتعجلة للشعر جعلت كل من كتب كليمات سماها شعرا  أو قصيدة للنثر.
تلك هي النظرة العجلى التي سيطرت على كل شيء لدى هذا الجيل، الاستعجال والاستسهال، إن المعاني التي تدور في النص هي الأساس والموسيقى لباس وزينة، فأنت حين تقرأ نصا يدور بذهنك حالة الشاعر وكيف يلاقي من عنت ومشقة وهو يكابد خطاه بحثا عن طيف الحبيب:
مضناك جفاه مرقده 
وبكاه ورحّم عوده
هذه الرائعة التي عارض بها شوقي الحصري القيراني:
يا ليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
حين تستمع وتستمتع إلى شوقي وغناء عبد الوهاب 
بيني في الحب وبينك ما 
لا يقدر واش يفسده 
تعيش حاله الأرق والسهر والحرمان من النوم، وكيف ينام المضنى المعذب وقد  خاصمه النوم، وسيطرت عليه حالة الهجر المفضي إلى البكاء. هذا الطيف الساري في النص هو الشعر، قوته الموسيقى وعززه الوزن.
وأرجع إلى مطلع النص وما يحويه من مقصد تدور القصيدة كلها معه دورانا يفي بالغرض ويبعث الحب في النفوس والتمسك بالمحبوب رغم الحسود:
حيران القلب معذبه
مقروح الجفن مسهده
إنها حالة الحيرة الناتجة عن الوجع والمرض، فلا شفعت له زيارة الناس ولا ترحمهم والدعاء له:
مولاي وروحي في يده
قد ضيعها سلمت يده
لكنه وبرغم الضياع الذي تسبب في الهجر إلا أنه يرفض الدعاء عليه بل يترجى له السلامة، إنها قمة التفاني التي تحملها المعاني وتوقظها الموسيقى.
إن ثقافة الشاعر هي محور لغته، فلا يؤوده النص ولا تعجزة المعاني،  ولا يكسره الخوف الناشيء عن الضعف وقلة التحصيل.
إن ثقافة الشاعر هي التي تجعل لنصه الخلود حين تجد في الحكاية(النص)  شعورك وحالتك وتعيشها معه كأنك هو، استمع إلى نزار: 
هي كلمة عجلى 
إني لأشعر أنني حبلى
وصرخت كالمسلوع
 بي
كلا
سنمزق الطفلة 
وأخذت تشتمني
واخذت تطردني
لا شيء يدهشني
فلقد عرفتك 
دائما نذلا
وبعثت بالخدام
 يدفعني
في وحشه الدرب 
يا من زرعت العار
 في صلبي
وكسرت لي قلبي..
هذه الجمال الذي يمشي على قدمين ويبكي على الورق حالة شعورية جبارة تخنق من يقرأ ومن يسمع بالبكاء ويدخل مع النص ويتفاعل مع الأنثى المظلومة، المغدور بها. أو استمع إليه في رائعة فايزة أحمد: 
رسالة من أمرأة
لا تدخلي
 لا
وسددت في
 وجهي الطريق
بمرفقيك
وزعمت لي أن
الرفاق أتو إليك
أهم الرفاق أتو إليك؟
أم أن سيدة لديك؟
تحتل بعدي 
ساعديك..
هذا الصوت الأنثوي الموجوع يشدك إليه شدا ويطوي المسافات والفلسفات، ويدخلك إلى هناك، إلى عالم الخيانة المؤلمة التي شعرت بها تلك الأنثى المغيبة، والمكذوب عليها من رجل العلاقات المتعددة.
هذه القصيدة وما قبلها لنزار، صوت حكاء صوت سردي خفي، إنها قصة شاعرة وقصيدة سردية نابضة بالألم والتوجع وروح الألفاظ، ليست لذاتها هنا وإنما بمعانيها ناطقة، وهذا هو الشعر.
ناصر رمضان عبد الحميد
عضو اتحاد كتاب مصر.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here