إن المتابع لحركة الشعر والنقد يجد أن المدراس النقدية الحديثة تظلم الشعر والشاعر حين أهملته أولا، وطوعت نصه ثانيا للمناهج الحديثة.
وساهمت الجامعات في دفع الشباب المفتقد إلى الثقافة والحس النقدي والموهبة النقدية للحصول على الدكتوراة في النقد الأدبي، ودفعت الجامعات دفعا وزجت بهم زجا، وأصبح الناقد مقولبا ولا حيلة لديه سوى بعض المصطلحات الوافدة التي يرددها ويحملها، ويعرضها كلما ناقش ديوانا أو رواية أو قصة قصيرة .
إنه الشعر الذي تخلينا عنه وعن لغته فكانت النتيجة ضياع الذوق وغياب التذوق وانداحت الهوية.
إنه الشعر (التراث) الذي تشن الآن حملات للتخلي عنه، وهل هناك أمة عاقلة تترك إرثها وماضيها وما سطره الأجداد بدعوى أنه فيه بعض الخرافات والأساطير.
هذا الجيل المفلس الذي يبحث عن النور وسط الظلام، فلا هو خرج منه ولا هو وصل إلى مبتغاه.
إن جامعات كالسربون الآن ترسل المبتعثين من طلابها لدراسة شعر المتنبي والبحتري، وفي الفلسفة يبحثون عن ابن رشد وابن سينا ومثلهم يبحث عن فيثاغورس. إن طلاب باريس والسربون يبحوث عن أي ورقة أو بردية أو قصاصة فيها شطر واحد، يسهرون عليها الليالي الطوال ويعدونها كنزا ثمينا. وجامعات ألمانيا تبحث عن التراث المصري القديم أدبا وهندسة وفلكا، ثم يأتي متهور ليرفض التراث جملة واحدة.
نعم هناك أخطاء ونقل وأساطير لا تصدق، لكن مجالها النقد والبحث والرد وقاعات الدراسة وليس شاشات التلفاز.
الأمر أشبه برجل بنى بيتا فجمله وكمله، وربما ترك لبنه أو ترك بعض المصابيح غير مضاءة .
يأتي دورنا كي ننير ونضع اللبنة ، كي نصلح لنسير في النور ، كي نصلح لا أن نهدم ليظل الطريق مضاء ليسير الناس فيه ويصل كل إلى ما يريد.
هذا التراث الأدبي هو سر البيان وسر الفهم لآيات الذكر الحكيم.
إنه المفصح عن حياة العرب الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والعاطفية.
هذا التراث الذي نظموه بصدق
وأمانة حتى ولو كان من وجهه نظر الإسلام يدخل في دائرة الحلال والحرام.
إذا طالعت قصيدة : تأبط شرا
ثابت ابن جابر الذي وصفته أمه حين حمل السيف وخرج وسئلت عنه أين ذهب؟ فقالت: تأبط شرا.
ذلك الشاعر: اللص المعروف أنه أحد لصوص العرب وأحد الذين تفننوا في السرقة والاختفاء عدوا لقوة في سرعته وحيلة في قوته. استمع إليه شاعرا ينقل حالته وتجربته الشعورية في العدو والهرب بعد السرقة والتمكن من الفرار، وكيف دبر وقرر، وأصر وعزم على الفكاك، وكيف يفخر بتجشم الأخطار ومصارعة الأهوال، وكيف يفرح بالكرم هازئا بمن يلومه على إنفاق ماله.
القصيدة فيها نموذج للحالة الاجتماعية والحياة عند العرب، وتصويرا بارعا لعقلية وبيئة هذة المنطقة، وكيف صورت القصيدة بصدق وأمانة حالته وشعورة وسرعته وقوته ونجاته.
إنها لحظة فارقة بين الموت والحياة،
بين الاستغاثة والنجاة.
يا عيد مالك من شوق وإيراق
ومر طيف على الأهوال طراق
يسري على الأين والحيات محتفيا
نفسي فداؤك من سار على ساق
إنها حاله الأرق والحزن وكيف عاشها بين طيف الليل الذي تتسلل منه الحيات وهو حافي القدم يخاف لسعها، إنه الشعر حالة شعورية صادقة بها إحساس يسري في جنبات الشعر سريان الحياة في الحياة.
أنظر إلى حرف القاف وموسيقى الصوت التي تبعث على الحيرة وتعبر عن حاله القلق في السجن الذي يلفه سجن الخوف قبل أسوار القيد
والوحشة في ظلمة ليل ليس فيه سوى الرعب والظلام الذي يعانق الوحدة.
وانظر إلى نهاية القصيدة:
سدد خلالك مال أنت تجمعه
حتى تلاقي الذي كل امرئ لاقي
لتقرعن عليّ السن من ندم
إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
وانظر إلى البيت الأول وكيف يتعانق مع البيت الأخير، في الأول رغم الحزن والأسر يحث نفسه على الإقدام ويقول: لنفسه ما أعظمك رغم الوحشة والأسر ، من باب تحفيز الذات وتشجيعها على الصبر، وإنها لحظة ستمر .
ونهاية القصيدة وفيها التفاخر بالكرم والبقاء بحسن السيرة بعد الفناء وأن مثله لا ينسى. وتدور القصيدة بين المطالع والمقاصد والنهاية دورانا يفهم القارئ والناقد أن سرقته لم تكن عدوانا على أحد وإنما لنصرة الفقراء والمحتاجين من القبيلة بفعل الظلم والطبقية، وكأنه كان يعرف وصدق حدسه أن ما فعله يخلده لأنه ليس مجدا ذاتيا.
إنه الشعر الذي كنا نتعجب ونحن في المرحلة الأولى من الجامعة ، حين يصر الأستاذ الدكتور .. على مطالعة وقراءة ديوان المفضليات والحماسة لأبي تمام .
ونسأل أنفسنا في جهل لماذا الحماسة؟
وما العلاقة بينها وبين ما ندرس؟
ومع الوقت عرفنا أن الشعر هو وعاء اللغة وأنه يحوي مفرداتها وجمالها وبقاء مذاقها غضا طريا.
إنه الشعر الذي قال ابن جني عن المتنبي أنه أستاذة في اللغة ومنه تعلم.
-يتبع-