كانت سايكي تلاعب شعر آريوس بحنان تهمس له بكلمات حبها الأبدي، وضعت قبلة على عينه المتورّمة الدامعة، لم يكن آريوس ليستجيب لها، تلقى صفعة قوية وهو يجول بالأرض أرعبت الفرح داخله وأحزنت قلبه الجميل،كان يحلق بأمان يطمئن على كل بذور الحب التي نثرها بقلوب عشاق أصابت سهامه الذهبية منهم مقتلا. نادرا ما كان يرمي بسهامه الرصاصية المانعة للحب، بل لم يكن يرميها إلا في حالات قليلة جدا بعد انتقادات والده آريوس، عاشق الخراب والدمار، تفاديا لغضباته الغير متوقعة وهو شديد الانفعال، وعندما كان آريوس يرمي بنباله الرصاصية، يغمض عينيه حتى لا يرى تأثيرها المدمر ومن يصاب بها. لذلك كنت تجد الحقد والكره قد غرس في كل بقاع العالم بدرجات متفاوتة،
ما زعزع طمأنينته اليَوْمَ هو اكتشافه المريع، لقد فقد الثقة في سهامه الذهبية، سهام الحب.
– امتطيت غيمات منخفضة، متنقلا من أقصى الأرض إلى أقصاها، ثم نزلت لأستريح قليلا بعد يوم شاق. لقد أشعل والدي آريوس وعمتي أثينا فتائل الحروب، فاندلعت في كل مكان، وعمّ الخراب والدمار. مهمتي أصبحت أكثر صعوبة وشبه مستحيلة، انشغل الناس بالكره ووجدوا في الحقد وإراقة الدماء ملاذا لضعفهم، يعزّز أنانيتهم وسطوتهم، ويضاعف سلطتهم، لذلك كانت قلوبهم متحجرة بالكاد أستطيع اختراق بعضها، ورشقها بسهام الحب..
اخترت حديقة غنّاء، وجلست بين أشجار الياسمين أستمتع بزقزقة العصافير والهواء العليل، عندما سمعت أنينا خافتا ينبعث من مكان قريب، كان أنينا موجعا أدمى قلبي. اقتربت أكثر، سيدة في مقتبل العمر تذرف دموعا حارقة تحكي قصتها أنينا ووجعا، فجأة استوت واقفة سحبت خاتما من أصبعها ورمت به بغضب في الهواء وهي تلعن الحب و لوكابيد.. صبّت جام غضبها علي، فمرة تخاطبني باسم كيوبيد ومرة باسم إيروس.. كنت أقف غير مرئي، أصابني الخاتم وضعت يدي على عيني المتورمة، ثم التقطته وأنا أرتب كلمات السيدة المجروحة.. “نُسيتُ كما أنني لم أكن.. بعدما كنت محور سعادته ومبددة أحزانه.. كم تغنّى بي وأقسم أنه يحبني ولن يهجرني وفي رمشة عين تنكر لكل وعوده ورحل، تنكر لأيادي البيضاء وهي تخفف عنه وجعه وتكفكف دمعته، الحب وهم، نعم هو كذلك مجرد وهم، وإله الحب إيروس وسهامه الوهم الأكبر، ليس هناك حب خالد ولا أبدي، بل ليس هناك حب، الحب لا يجرح ولا يقتات من أصحابه”.
أبعد إيروس يد حبيبته سايكي برفق، نظر في عيونها الحائرة واسترسل يحكي لها بوهن عن يومه الحزين. أصابتني المرأة في عيني فانقشع عني الحجاب، أتتذكرين حبيبتي عندما نزلت قطرة الزيت على صدري من القنديل وأنت تحملينه خلسة للنظر إلى وجهي وأنا نائم، كان الوقت ظلاما بعدما أثارك الفضول وتحريض أخواتك، وكنت قد منعتك من ذلك؟.. الخاتم كان كما نقطة الزيت التي أيقظتني وجعلتني مرئيا.
نظرت إلي المرأة وهي ترتعش دون خوف.. استجمعت قواها واتجهت نحوي مهرولة، أمسكت بجناحي بقسوة وهي تحاول أن تنتزع سهامي، قالت لي إنني أسوأ من أبي إيروس إله الحرب، أنثر الحب في القلوب، لكن بذوري ملوثة لذلك فهي لاتزهر أبدا، وسرعان ما يذبل الحب..
-
جدير بك أن ترمي سهامك الذهبية في الجحيم فهو مكانها الطبيعي، سهامك مخدّر قاتل بل سمّ يتغلغل في القلوب تشعر بدفئه ولذته حدّ التوهان والإغماء بالبداية، لكن سرعان ما يتبخر سحر تخديره وينخر السم كل ذرة بالروح والقلب، أنت كما هو، قاتلي ولن تفلت من يدي.. صرخت بهستيرية وهي تنتزع ريش أجنحتي.. وفجأة رمتني بنظرة حزينة قاتلة، لملمت شظايا قلبها المنكسر وريشي المبعثر وتركتني واجما أحاول فك اللغز..
لم سهامي الذهبية ملعونة وملوثة؟؟ لم تتغير القلوب العاشقة؟؟
حاولت سايكي أن تخفف عن زوجها آريوس عذابه وإحساسه بالذنب لكن دون جدوى. استسلمت للنوم وقد تفتق ذهنها عن حل يبدد حزن حبيبها، ستذهب للقاء المرأة وتقايض ريش آريوس، ألم تكن يوما آدمية وتعرف كيف تفكر النساء؟
وهو يتقلب على سرير الشّوك مفكرا في حيرته، نظر إلى حبيبته الجميلة مستغرقة بنوم هادئ، استرجع لقاءه الأول بها وكيف أصيب بسهم من سهامه وعشقها وعشقته حدّ الخلود، قفز من مكانه وقد أدرك أمرا لم يخطر له على بال من قبل،، عندما أصابه السهم قطرت نقطة من دمه بجراب سهامه ذات الرؤوس الذهبية، إذاً هي لعنة جده أورانوس.
جلس يفكر بعمق، تذكر والدته إفريديت آلهة الجمال،كيف تكونت من رغوة الدم والمني، بعدما اقتلع أخوها كرونوس العضو التناسلي لأبيه أورانوس بتحريض من أمه بجايا، آلهة الأرض، ورمى به في البحر فخرجت إفرديت الجميلة من زبده، ثم كان هو ثمرة ارتباط بين الجميلة إفريديت وإله الحرب آريوس. هي إذاً لعنة العقوق والغدر والجحود والكره تسري في دمه، لذلك يتنكر العشاق للحب ويكذبون في قسمهم ووفائهم.
أطرق لوكابيد مقطبا، يفكر في حل يزيل كل الشوائب الملوثة عن سهامه، تم تمدد قليلا ليريح جناحه المجروح وقلبه، بينما تسللت حبيبته خارج الفراش، نادت على زافيروس إله الريح، حملها بين ذراعيه برفق ونزل بها إلى الأرض.
فتحت السيدة الحزينة نافذة غرفتها الوردية، نظرت إلى السماء وقد اختفت كل النجوم، ثم رنت بنظرها اتجاه الحديقة تبغي استنشاق عبيرها لكن العطر كان قد غادر أيضا الياسمين، تساءلت عن جدوى وجودها وسط هذا الخواء، وهي تحاول التحرر من قلق جثم على قلبها وأحكم تكبيله حدّ الغثيان. وفجأة ظهر لها الجمال متجليا بحسناء تركب الريح أنساها لوهلة وجعها، اقتربت سايكي برفق حتى لامست أنفاسها المتسارعة، وضعت يدها على قلب السيدة المرتجف، فسكن من روعه.
– أنا زوجة آريوس إله الحب، لوكابيد اسمه التاني، وجئت لاستعادة ريشه، ما زال جناح حبيبي ينزف، آريوس يتألم.
– ومن سيوقف نزيف قلبي وقد تسبب فيه زوجك؟
– سأقايضك بتجربتي حول الحب والخلود، وستتعافين.
في رحلتي الضبابية بحثا عن حبي آريوس بعدما هجرني عقابا لعصياني له، أخضعتني أمه الغاضبة إلهة الجمال إفريديت لثلاث اختبارات تعجيزية، إذا اجتزتها عرفت طريقه، وهكذا كان.
الاختبار الأول، علّمني أن الحب يحتاج لطاقة حتى يستمر، فكان النمل مادتي في تحقيق المهمة وفرز الحبوب والاختبار الثاني تعلمت منه أن الحكمة والعقل هما جوهر الحب، لولاهما لما استطعت جزَ صوف الخرفان الضارية. أما الاختبار الثالث وإحضار صندوق الجمال الأبدي لإفريديت من العالم السفلي، وسقوطي تحت سحره ثم نومي، فقد منحني يقظة روحية واستنارا داخلي بعد قبلة آريوس، الذي هبّ لإيقاظي ومنحني النضج والخلود.. عليك أن تعلمي أن الحب فن وطاقة وعقل وحكمة ونور ويقظة روح، ونضج وأمل.
الحب امتداد لروحك، لذلك عليك تعلّم فنونه واجتياز كل اختباراته بحكمة، سلاحك الوحيد طاقة التحدي ونور العقل، ووعي وإدراك ونضج. وعندما ستنيرين دهاليز عمقك ستعثرين على حبك الضائع.
كانت السيدة تشرب بارتياح كأس بوح سايكي حدّ الثمالة، ثم انتفضت فجأة وسألتها:
-
أين اختفت النجوم وأين الياسمين؟
مدت لها سايكي خاتمها ويدا ناعمة، امتطيتا الريح ونزلتا بالحديقة، كانت كشعلة متوهجة، والنجوم قد غادرت السماء لتحط على الزهر والشجر، وكان هناك جمع غفير من العشاق يدورون حول الياسمين المنيرة مرددين قسم الحب الخالد: “أقسِمُ، أُقسِمُ، ألا أفعل شيئاً وألا أتفوّه في حياتي بما لا يكون باسم إيروس (الحب الحقيقي)”. ابتسمت السيدة وهي تردد مع العشاق قسم الحب، وتناول سايكي ريش إيروس الناصعة البياض.
في الصباح الباكر، فتح إيروس عينيه وقد استعادتا بريقهما، وكان وجه حبيبته مبتسما وهي تناوله ريش جناحه المنزوع، طبع قبلة على جبينها الوضاح ثم توجه إلى النهر المقدس لتطهير سهامه الذهبية.
وهناك بعيدا، بعيدا جدا، بالأرض الفانية، على زقزقة العصافير استيقظت السيّدة الجميلة، كانت رائحة الياسمين تعبق بالمكان، ابتسم قلبها وهي تتناول خاتمها من درج قريب، أعادت وضعه بأصبعها، وحضن حلمها الوردي مازال يدثرها، ثم فتحت النافذة على مصراعيها وعلى أمل عودة حبيبها الغائب، تمطّطت بسعادة وأغمضت عينيها مبتسمة وكل خلية داخل روحها تشدو لجلال الدين الرومي، “الطريق إلى السماء داخلك، فقط حرّك أجنحة العشق..”.
أحسّت أنها خرجت من دائرة الزمن وأنها تمتلك العالم بقلبها العاشق، وأدركت حينها أن وعيها الكوني قد اكتمل، وأنها كقطرة ماء تصبح هي المحيط عندما تذوب في المحيط، كما قال المتصوف أنجيلوس سيليسيوس.
ثم خفيفة كريشة كيوبيد، شفّافة كقطرة ماء، أصبحت هي العشق.