رواية الغثيان لسارتر- فاطمة الشيدي

0
1253

 

قراءة في جماليات الضجر
أن تختار عملا أدبيا لتقرأه؛ فلابد من محفزات جليلة تمنحك الإغراء الضمني للتعاطي مع هذا العمل دون غيره، الإغراء الذي سيتكفّل بالكثير من أيامك ليسمها بالمتعة والاستغراق في هذا العمل الذي يصبح صديقا ودودا، أو خصما عنيدا، وفي الحالتين أنت مطالب بالكثير من التحدي لإتمامه، وتتمثل هذه الإغراءات في عنوان الرواية أحيانا، أو اسم الكاتب وذيوع صيته وشهرة قلمه، واسم المترجم إذا كانت الرواية ليست بلغة القارئ الأصلية.
وفي رواية “الغثيان” لجان بول سارتر كانت كل هذه الإغراءات الثلاثة متوافرة وبقوة، فالعنوان يشكل قوة جاذبة للمتلقي سيما المتلقي الضجر، والذي يستشعر حالات الملل والقرف والغثيان بشكل دائم وحقيقي، ليبدأ التساؤل أي نوع من الغثيان هذا الذي يقصده المؤلف ويدشنه العمل؟ هل هو غثيان حقيقي بمعني أنه غثيان فسيولوجي برغبة عارمة في الترجيع؟ أم أنه حالة نفسية، أي حالة غثيان شديدة وقصية وعميقة من الملل والقرف والوجع من الوجود والبشر والتفاهات والغباوات، حالة غثيان من كل ما من شأنه أن يطعن الروح في مقتل، كالنفاق والكذب والتزلف والنفعية والبهيمية والفوقية والكثير الكثير من الأمراض البشرية، ومما يحدث في هذا الوجود المتناقض والذاهب في الجمود والجحود والقرف، ثم يأتي اسم سارتر 1905- 1980 الفيلسوف والأديب والكاتب المسرحي والسينمائي والناقد الاجتماعي، ليشكل دافعا آخر أكثر قيمة وأكثر إغراء، فماذا سيكتب سارتر عن الغثيان؟ وكيف ستكون الرواية التي يحكيها فيلسوف ممعن في صناعة النظرية، وفي التأمل الوجودي، وفي تحليل الأفكار، وفي استنباط الأحكام، وفي معالجة الأفكار والرؤى الإنسانية؟ إنه صانع أفكار، فكيف ستأتي روايته وهل سيقدم لنا مادة نظرية جافة أم سيعالج البنى الرئيسية للرواية من الحبكة والشخوص والزمان والمكان؟ وهل سيستطيع تحميل روح السرد لبُنى الحكاية؟ وهل سينطق الشخوص بما ينبغي وفق مستوياتهم الفكرية والروحية؟ أم سيكون العمل مملا وباهتا؟ وغيرها من التساؤلات المشروعة في منطق القارئ، ثم يمتد الإغراء للمترجم الذي هو الدكتور سهيل إدريس صاحب القلم والفكر الذي عمل في هذا المجال طوال حياته باحثا وكاتبا ومترجما فذا.

وحين تجتمع هذه المغريات الثلاثة، فلا يكون حينها من فكاك من هذا الشرك الجميل، ومن السقوط في فخ الغواية والذهاب بالقراءة حتى مداها الأخير.

رواية الغثيان هي حكاية الرجل الوحيد السيد “أنطوان روكنتان” الذي جاء إلى “بوفيل” ليؤلف كتابا عن المركيز دور رولبون، ولأن روكنتان يعيش حياة الوحدة الصعبة، والذكريات المريرة، مع مخيلة خصبة يتأمل من خلالها البشر والوجود، قرر أن يكتب يومياته، ولذا أصبح يفكر ويتأمل ويكتب كل شيء يحصل له -مهما بدا تافها- بدقة في دفتر يومياته الذي يرافق وحدته، ويحدّ منها أحيانا كثيرة، ومن تدفق الأفكار المجنونة في رأسه، “سيكون من الأفضل كتابة الأحداث يوما فيوما. تسجيل يوميات تتيح مواجهة الأمور بوضوح، وينبغي تجنب إهمال الفروق والدقائق والأمور الصغيرة حتى لو كانت تبدو لا قيمة لها، وينبغي خصوصا تصنيفها. يجب أن أقول كيف أرى هذه الطاولة، والشارع والناس، ورزمة تبغي، ما دام هذا الذي تغير. يجب تحديد مدى هذا التغير وطبيعته تحديدا دقيقا” ص5.

ولكن روكنتان لا يكتب يومياته لغاية الكتابة ذاتها، فهو غير آبه بذلك، ولا بأي شيء آخر على وجه الأرض، بل يفعل ليشفى من تفكيره، وغثيانه، ولذا وفي لحظة ما حين شعر أن شفي من التفكير والغثيان قرر عدم كتابة اليوميات.. “سأنام. لقد شفيت، وإني قد عدلت عن كتابة انطباعاتي يوما فيوما، على غرار ما تفعل الفتيات الصغيرات، في دفتر جمل جديد، على أنه ربما كان ممتعا، في حالة واحدة، أن أكتب يومياتي: في حالة ما إذا.. “وهكذا يتركنا روكنتان دون أن نعرف في حالة ما إذا ماذا؟ حتى آخر الرواية لنعرف إنه “في حالة ما إذا أصبحت رواية”.

ويمضي في تدوين يومياته بالفعل يوما بيوم، وقبل الشروع في تدوين اليوميات صدّر العمل بخطاطة عنونها بـ “ورقة بلا تاريخ” وهي أشبه بخطة العمل، ووضّح فيها كيف؟ وما سوف يكتب، مبينا ما يجب أن يفعله، ومالا يجب أن يفعله كاتب اليوميات الفطن “وأعتقد أن هذا هو موضع الخطر لمن يسجل اليوميات؛ إنه يبالغ في كل شيء، وهو يحرف الحقيقة بلا انقطاع” .ص5
وهكذا بدأ في كتابة يومياته في بوفيل بأوقاتها من تاريخ الاثنين 20 كانون الثاني 1932، وحتى “الأربعاء آخر يوم في بوفيل”، كما عنّون التدوينة الأخيرة. ليقدمها لنا لاحقا رواية الغثيان التي تسجل بدقة وموضوعية يومية حياة روكنتان الذي يقضي وقته في بوفيل كاتبا وباحثا وقارئا بين المتحف، والمكتبة، والمقاهي والحدائق العامة التي يجلس فيها ليتناول وجباته وليتأمل البشر، وليراجع ما كتب أحيانا، ويقرر ما سيفعل لاحقا، وما سيكتب في أحيان أخرى.. (“كان السيد دورولبون قبيحا جدا، وكان يروق للملكة أنطوانيت أن تدعوه بـ”قردتها العزيزة”..).

يمضي روكنتان فترته في بوفيل متأملا لكل ساكنة وشاردة، بدءا من حركة يديه، حتى أي عابر للشارع، حتى كل شخص يتعامل معه، يتأمل الحياة بحركتها وسكونها بعمق وجنون، في محاولة قراءة خاصة وعميقة للأشياء، والبشر باختلاف أدمغتهم وأمزجتهم وأحوالهم الحياتية، ويكتب كل ذلك بدقة ومتعة، محاولاً أن يفسّر كل شيء، ويخضعه للمنطق الذاتي القائم على الملل والغثيان، إنه يفكر في كل شيء ليبرهن أنه ما يزال على قيد هذه الحياة الصعبة التي يعيشها.. “إنني كائن، إنني كائن، موجود أفكر، فإذا أنا موجود، إنني كائن لأنني أفكر، لماذا تراني أفكر، إنني كائن لأنني أفكر بأنني لا أريد أن أكون”. ص142.

ولأنه وحيد وفارغ، فهو ممتلئ بالأفكار، وبالتأملات، وأيضا بالضجر والملل الذي يصل به حتى الغثيان، وهذا مربط الفرس في الرواية، فالغثيان الذي يعبّر عنه سارتر بعمق وروية وجنون، هو حالة نفسية تتصاعد من داخل الروح، والعقل حتى يشعر بها الإنسان تتلبسه تماما بشكل ملموس وحسي وحقيقي: “أما أنا فأعيش وحيدا، وحيدا كل الوحدة، إنني لا أتحدث مع أحد أبدا، لا أتلقى شيئا، ولا أعطي شيئا”. ص12.

ويبدأ روكنتان في شرح هذا الغثيان/الحالة التي تصيبه فجأة، وهو يأكل أو يفكّر، أو حتى يتعامل مع شخص آخر: “إن الوضع سيء، إنه سيء جدا: فأنا أشعر بها، وتلك القذارة ذلك الغثيان، وهو شيء جديد هذه المرة: فقد أصابني وأنا في مقهى”. ص28.
ويمكننا أن نستخلص من الأحداث أن الغثيان الذي يتحرك في جسد روكنتان، ويتصاعد إلى روحه، حالة من القرف الكبير من كل شيء الذات والآخر والمكان والزمان، إنه الرغبة في إنهاء كل شيء، أو الملل العظيم الذي ينتهي عنده كل شيء فعلا، ما أن يحضر بخفته أو ثقله، “إن الغثيان ليس في: فأنا أحسه “هناك” على الجدار، على الرافعتين، حولي في كل مكان، فليس والمقهى إلا شيئا واحدا، إنما أنا الذي فيه”. ص 30.

ولكن روكنتان مع الوقت يتأقلم مع غثيانه، ويستوعب حالته، ولم يعد يتذمر منه، فقد أصبح الغثيان جزءا لا يتجزأ من شخصيته.. “إن “الغثيان” لم يتركني، ولا أحسب أنه سيتركني بهذه السرعة، ولكني لا أكابده بعد، فهو لم يعد مرضا، ولا نوبة عارضة: إنه أنا”. ص 177.
وروكنتان ليس شخصا متشائما، ولا مُعرضا عن الحياة، بل هو يحاولها بصدق وجهد، فهو يحاول أن يعمل شيئا مفيدا ومجديا دائما مع بحثه، أو مع نفسه، أو حتى مع الناس، كما يحاول أن يستوعب سبب هذا الغثيان الذي يتصيده، ويحاصر أوقاته ورغبته في الحياة، ويحاول التخلص منه دون جدوى: “إن العبثية تولد الآن تحت قلمي”، ص180، “فما أشق أن يتخيل المرء العدم! أما الآن فقد كنت أعرف: إن الأشياء هي برمتها مما تبدو عليه – وخلفها.. لا شيء”. ولكن لا فائدة فالغثيان يحاصره، ويبدو أن هذا هو قدره من الحياة.

وهو أيضا ورغم أنه رجل وحيد مصاب بالغثيان، إلا أنه رجل عاشق، ولديه حبيبة يعيش على ذكراها، ويتذكر سعادته في الفترات التي كان معها، ويتفكر دائما في مدى سعادته لو كان بقرب حبيبته “آني”، فهو يهذي بها من بداية الرواية حتى آخرها، وينتظر موعدها معه بلهفة، كما يحكي عن ذكرياتهما العشقية معا: “كانت آني ترد لي الزمن، كل ما كان يستطيعه، فحين كانت في جيبوتي وكنت أنا في عدن، وحين كنت أقصدها لأربع وعشرين ساعة، كانت تتفنن في مضاعفة سوء الفهم بيننا، حتى لا يبقى على ذهابي إلا ستون دقيقة تماما، ستون دقيقة الوقت اللازم لإشعار المرء بأن الثواني تمر واحدة واحدة”. ص82.

يتذكر روكنتان “آني” في كل لحظة، ويستحضرها في كل تفصيل ومفصل من حياته، ومن تدويناته ويومياته، سواء بشكل ضمني أو واضح، فتارة يتمنى لو تكون معه في الحاضر، وأخرى يتساءل عما تفعله الآن بدونه؟، ومع من تكون؟، وثالثة يتفكر كيف سيقابلها؟، وماذا سيفعل حينذاك؟ ويتذكر بألم ومرارة سبب فراقهما الحتمي، الذي جاء قاصما لحياته كلها، والذي حطّم كل أحلامه وطموحاته، وغيّر مسار حياته، فقد فقد معه كل متعة ممكنة للحياة، ولم يعد سوى رجل مصاب بالغثيان..: “ثلاثة أعوام حاضرة معنا، حاضرة معا. من أجل هذا افترقنا: فإننا فقدنا القوة على تحمل ذلك العبء، ثم فجأة، حين تركتني آني، انهارت الأعوام الثلاثة مرة واحدة، ودفعة واحدة”. ص91.

وحين التقيا بعد زمن طويل، وانتظار كبير، وشوق عارم، ولهفة حارقة، وذكريات كثيرة ممتدة بينهما، كان الحب ثابتا في قعر الروح، ولكنهما كابرا بشدة عليه، لم يستطيعا أن يختصرا المسافة بينهما لذات النقطة، لذا كان الحوار بينهما ذابلا ولا يقول شيئا: “أنا لست حزينة على الإطلاق، وقد سبق أن دهشت لذلك مرارا، ولكني كنت على خطأ: لماذا أكون حزينة؟ كنت جديرة في الماضي بعواطف عنيفة جميلة. لقد كرهت أمي بهوس.. ثم أضافت بتحدٍّ وأنت بالذات، لقد أحببتك بهوس..”.

وهكذا افترقا مجددا، بلا نية على اللقاء أو الفراق، ذهبا في العام، في الحياة التي تبتلع كل شيء، والطريق الذي يؤدي إلى كل مكان إلا إلى حب يسكن القلب، أو وجع يسكن الروح، ذهبا؛ وبقي في منطقة ما بينهما لا حدود لها ولا ظلال حنين عارم لن يزول.

ويمضي روكنتان في غثيانه الذي أوصله أخيرا بأنه لن يؤلف الكتاب الذي كان ماضيا في تأليفه..”: أربعة أسطر على ورقة بيضاء، لطخة دم، إن هذا هو ما يشكل ذكرى جميلة، وينبغي أن أكتب تحتها: “هذا اليوم عدلت عن تأليف كتابي عن المركيز دور رولبون”. ص141، كما قرر العودة إلى باريس: “انقطعت عن تأليف كتابي عن رولبون، انتهى الأمر إنني لا أستطيع بعد أن أكتبه، فما الذي سأصنعه بحياتي؟”، ص 133، ولكنه وجد في يومياته التي يدونها منذ أول لحظة جاء فيها لبوفيل حتى خروجه منها، وركوبة للقطار مشروع كتاب من نوع آخر وهي رواية “الغثيان”: “رغم أنها.. أريد كتابا. رواية، وسيكون ثمة أناس يقرؤون هذه الرواية ويقولون: “إن أنطوان روكنتان هو الذي كتبها، لقد كان شخصا أحمر الشعر يتسكع في المقاهي”. ص 248.
إن أصعب ما يحدث عندما تضع قدمك أو روحك على عتبة عمل أدبي ما، ثم تمضي إليه وبه وفيه، أن تشعر ببعض الحنين والانتماء لهذا العمل، بل وأن تشعر لاحقا بالكثير من التوحد معه، لأن هذا الأمر سيكلفك لاحقا الكثير من التعاطف معه، أو الغضب منه أو الحزن عليه، وفي كثير من الأحيان الكثير الكثير من الانسجام العميق معه، حتى لتتخير لك موضعا، أو شخصا أو مكانا فتشعر أنك أنت هناك تماما، خاصة في الرواية، فقد تشعر أنك الكاتب أو البطل الذي حرك هذه الأحداث، وتتساءل طويلا، كيف فعل ذلك بي؟ كيف استطاع ترويض روحي بهذه الخفة، وكيف استطاع الإمساك بوعيي بهذا الشرك العظيم الذي نصبه لي بدهاء منه، واستجابة طواعية مني.

فإذا كان الحال يشبهك كثيرا فإنك ستكون مرتبكا جدا في التعامل معه، ماذا يعني أن تشعر أنك كائن من بلاد أخرى، ومن عصر آخر، ومن ثقافة أخرى، ومن توجهات فكرية وربما إنسانية أخرى أيضا، كيف تتلبس الأفكار التي لا تؤمن، أو لم تعد تؤمن بها؟ وكيف ستستطيع لاحقا التخلص من رواسبها في عقلك، كيف تتعاطف من الأخطاء التي تدرك فداحتها؟

ولكن هذا ما يحدث غالبا، حيث يصبح ذلك الملل هو مللك أنت، ذلك القرف الوجودي لك، مررت به مرارا، كل تلك الارتباكات في التعامل هي لك، كل ذلك الشرود والغياب والغباء، كل ذلك التعاطف الساذج أحيانا، وكل تلك القسوة غير المبررة أحيانا أخرى، كل ذلك الوجع من أشياء باهتة وغير ذات ثقل لتغير مزاجك، كل تلك العواطف التي تذهب في اتجاهات غير واعية وغير مستحقة، كل شيء، التيه والهذيان الطويل والمستمر والذي يمكن أن يؤلف كتبا كثيرة تحكي عن الملل والقرف، وعن بشر عبروك بزوايا مختلفة، منهم من طاول وجعك، ومنهم من اقتص من جبروت ضحكتك القصيرة، ومنهم من ضاعف وهنك، وضاعف حمّاك الباردة والحارة معا.

الغثيان الذي كتبه سارتر بعمق ودقة بكل تفاصيله المدهشة، والذي يتصاعد من الروح للجسد، بكل ذلك الحضور العميق والفاعل في الروح، في نحتها وتحليلها كسائل حمضي قادر على تحليل وتفتيت كل شيء، هو حالة إنسانية نفسية عميقة ومتكررة، وكثيرا ما تبتلع الروح وتفتت الوجدان.

أخيرا: يمكننا القول أن سارتر أبدع في الغثيان، حتى ليشعر قارئ في أقصى الشرق، بكل كلمة كتبها رجل في أقصى الغرب، وكأنه يعيشها تماما، بل وكأنه هو الذي اختبر تلك المشاعر المتضاربة، وذلك الحزن القاتل، وذلك الشرود الرهيب، وذلك الغثيان المتكرر، بعد ما يقارب قرنا كاملا، وهذا أكثر وأكبر وأجمل ما يمكن أن يصنعه عمل فني في قارئ خارج الزمان والمكان، وأكثر وأكبر وأجمل ما يبتغيه كاتب من الكتابة، وأكثر من يمكن أن يسم أي عمل أدبي بالنجاح والخلود معا.
هامش:

رواية الغثيان، جان بول سارتر، ترجمة: د. سهيل إدريس، دار الآداب ، ط 4،  2004.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here