النقد بين الهدم والبناء
” مفهوم النقد ” :
هناك ثمة إشكالية مستأصلة ( معلنة أو خفية ) حول مفهوم ” النقد ” بشكل عام ؛ وذلك نظراً لتلك الحساسية المفرطة التي تحدث في نفسية ” الكاتب ” بمجرد سماعه كلمة ” نقد ” .. وذلك نظراً لما تعنيه هذه الكلمة في نفسية الكاتب من مردود سلبي وإحساس يمس إبداعه الأدبي سواءً أكان في مجال القصة / الرواية / المسرحية / أو الديوان الشعري .
في العادة؛ إن درجة الشفافية المفرطة التي يتمتع بها ” الكاتب ” بشكل عام ؛ تتأثر بشكل كبير – وبشكل سلبي – بمجرد أن يهم ” الناقد ” بالتلويح بالقلم ؛ فيعتقد ” الكاتب ” خطأً بأن ” الناقد ” سوف يضعه على منضدة التشريح ويستعمل مبضعه ( قلمه ) في جسده الذاتي قبل أن يقوم بتشريح النص ذاته ؟؟!! … فقد يحدث في حالات كثيرة أن ينقلب ” النقد ” من نقد النص إلى نقد ” الكاتب ” ؟؟!!.
بدوري ؛ فلن أقول بأنها عداوة مستفحلة – ومتأصلة – بعيدة الجذور بين ” الكاتب ” و ” الناقد ” ؛ بينما الأصل في الأمور بأن الأدب والكتابة الأدبية هي ( شراكة ) غير مكتوبة بين الكاتب ( الأديب ) من جهة و ” الناقد ” من الجهة الأخرى .. فهما – الكتابة والنقد – يمثلان في الواقع وجهان لعملة واحدة .. اسمها ” الأدب ” .
والكتابة الأدبية شراكة بين الكاتب والناقد والقارئ الذي هو قبل الناقد محط اهتمام الكاتب ؛ فالكتابة بالدرجة الأولى موجهة اليه .
إن المفهوم الخاطئ لدى الخاصة والعامة على حد سواء لمفهوم ” النقد ” ؛ هو مفهوم ليس واقعياً البتة .. لأن الاعتقاد السائد بأن ” النقد ” هو أداة تجريح وهدم وقدح وليس مفهوم بناء ومدح ؛ مع أن الواقع يقول بأن ” النقد ” هو الجزء المتمم والمكمل والمرآة العاكسة للعمل الأدبي بشتى أشكاله .. وهو ” الشقيق التوأم ” له .
علما بأن بعض النقاد ليسوا كتاب والكثير منهم يعجز عن كتابة نص نثري من عدة سطور فما بالك برواية؟ ..
ولهذا فلو كان الناقد كاتبا عاش ألم ووجع الكتابة فإنه سيدرك الفرق بين ترف القراءة وإبداء ملاحظاته حول النص وخوض غمار الفعل الكتابي.
.. من هذا المنطلق ؛ فكر الكثير من المهتمين بالأدب في شتى فروعه الإبداعية والنقدية .. إلى ابتداع نوع من ( النقد المخفف ) للتلطيف والتخفيف من الأجواء ؛ وذلك تحت مسميات عديدة .. – كلها تصب في نفس القالب – كـ ” القراءة ” .. ” البحث ” .. ” التحليل ” … أو ما شابه .. والتي كلها في النهاية تنضوي تحت مفهوم ” النقد المبطن ” وذلك لكي تكون ” القراءة ” في منأىً عن الحساسية والشفافية .. بعيدا عن التجريح والتشريح .
ولا شك بأن لهذه الفكرة التعويضية عن ” النقد المباشر ” قد آتت أكلها وبشكل جيد .. وعملت على ” رأب الصدع ” المستحكم بين ” الكاتب ” و ” الناقد ” ؛ وعملت على القيام بنوع من التقارب بينهما ” والمصاهرة ” بعيداً عن الحساسية والشفافية المفرطة .
ومما لا شك فيه بأن النزعة التسلطية والنظرة ” الفوقية ” لبعض النقاد ؛ كانت قد فاقمت من حدة الخلاف والتأزم بينهم وبين الكتاب والأدباء والروائيين ؛ وفي مراحل معينة كان ” رأب الصدع ” أمراً مستحيلاً .
وللإنصاف ؛ فإن عدداً لا بأس به من ” النقاد المعتدلين ” قد فطنوا لهذه المعضلة والإشكالية ؛ فعملوا كل ما في وسعهم من أجل ” رأب الصداع ” وإزالة الضبابية في العلاقات بينهم وبين الأدباء ؛ فلم يقوموا بالتشريح والتجريح – والذي كان يتعداه في كثير من الحالات بعض النقاد – إلى تجريح وتشريح ” كاتب النص ” ذاته ؟؟!! .
ولن أقول بأن ” النقد ” قد انقسم إلى ” مدارس ” ولكني أقول بأن ” النقاد ” هم الذين انقسموا على أنفسهم حسب أهوائهم وأمزجتهم الشخصية ومصالحهم الذاتية ..
ولن أدعي بأن الأمر سوف يظهر وبشكل جلي وواضح فيما لو اجتمعوا على ” نقد ” عمل أدبي واحد لنفس الكاتب الواحد ؛ فسوف نرى بجلاء ووضوح كيف ستكون وجهات النظر ” النقدية ” متباينة ومختلفة وبينها ” بون شاسع ” ، وبالطبع فإن هذا يرجع إلى الأهواء والأنواء والمزاجية لكل ” ناقد منهم ومدى علاقته ( علاقاتهم ) مع كاتب النص .. والمدارس المختلفة – ليس مدارس ” النقد ” ؛ بل مدارس النقاد – ومدى العلاقة الشخصية والاجتماعية للناقد مع كاتب النص ومكانته المجتمعية .
.. في كثير من الحالات … فإن ” الناقد ” يكون سبباً مباشراً في الحكم على العمل الأدبي – وصاحبه – بالفشل الذريع .. بما أعمله من مبضعه ( قلمه ) تحت لواء ” النقد ” ؟؟!!ّ
وبالمقابل .. فكم من عمل أدبي ارتقى إلى أعلى قمة في سلم النجاح – وهو لا يستحق مثل ذلك – وذلك بفضل تلك ( المحاباة الشخصية ) من قبل ” الناقد ” تجاه ” كاتب النص الأدبي .
في كثير من الأحيان ؛ يكون الخوف من ” بطش الناقد ” سبباً من أسباب النجاح – أو الفشل – لأي عمل أدبي .. وذلك بسبب تأزم ” الكاتب ” والتوجس من ردة فعل ” الناقد – النقاد ” لعمله الأدبي .
إن المحاولات الحثيثة الحقيقية للكثير من ” النقاد ” على فرض نوع من السلم ( المسالمة ) بينهم وبين الأدباء والكتاب بطريقة مهنية عملية ؛ قد آتت أكلها بشكل جيد .. مما جعل أمر التعايش ” المصالحة والتصالح ” أمراً ممكناً قابلاً للتنفيذ على أرض الواقع ، مما خلق نوعاً من الارتياح النفسي والمهني لدى كلٍ من ” الناقد ” والكاتب – الأديب – الروائي ) وجعل ” الأديب ” يتفرغ بشكل جيد للإبداع الأدبي مطمئناً إلى أن العمل الأدبي سيؤول في النهاية إلى أيدٍ أمينة من ” النقاد ” .