كنت أظن أن العلماء والفلاسفة هم فقط من يهتمون للنشأة الأولى للكون وللحياة، ويبدو أن شاعرنا أحمد حضراوي هنا يهتم بهذا ولكن بما يخص طرفي عمارة الأرض، آدم وحواء. يَودّ إعادة اكتشاف سر هذه العلاقة الأبدية بينهما، سر هذا العشق الذي يسري في شريان البشر عامة وفي شريانه خاصة. يود اكتشاف كيف يصبح طرفيّ عمارة هذه الأرض كيانا واحدا، ينصهران بهذا الأتون وهما راضيان، بل راغبان.
ولكن كيف يعيد شاعرنا هذا التكوين؟ هل سيسلك سبيل العلماء أم الفلاسفة مثلا؟ والجواب بالطبع لا، بل من خلال جماليات اللغة التي تعْبرُ من وإلى الوجدان فتتلون بكل أطياف جماليات التعبير من خلال الحرف والكلمة والخيال الخصب. من خلال مشاعره هو بحوائه. من خلال تصوراته الخاصة وإن استعار بعضا ممّا ورد في الأثر ممّا يتعلق في تفسير خلق آدم وحواء. وسرديات أدبيات القدماء في هذا الشأن وتصوراته الخاصة التي يخلق فيها شبها ما بين حواء التي يتصورها وأجمل زهرة ربطت البشرية بينها وبين الرومانسية المنشودة.
حتى نعيد..
كتابة التكوينِ
لابد من شيء
من التلوينِ
من أحرف يمشي الخيال بحرفها
وبطيفها يختال بعضُ جنونِ
وتخرُّ كل غواية في ركنها
إن الصلاة على القصيد يقيني
وجه صبوح مثل “توليب” الجنا
وإشارة من كفه تكفيني!
هنا يضع الشاعر شروطاً لإعادة اكتشاف لحظة خلق وميلاد هذا العشق بينهما – آدم وحواء – لحظة انبثاقه في قلبيهما، ليجعل الوجدان واحدا فيهما وفي نسلهما. في عمق أعماق هذا الوجدان المتشكل الذي أبدعه خالقه سبحانه وتعالى.
في هذا البحث الوجدانيّ الشاعريّ لا بد من تلوين، والتلوين هنا ليس بالأصباغ وإنما بألوان البديع والمحسنات اللفظية وبلاغة وصلت لدى شاعرنا ذروة الذروة لتقدم لنا صورا فنية مرسومة بدقة متناهية، ليس على الذهن إلا إعادة تشكيلها من جديد وفق نموذج من حروف وكلمات، ليدخل الذهن إلى مخياله يرسم حسب سعة هذا الخيال وقدرة صاحبه على تنفيذ إعادة التشكيل، ليخرج بتلك اللوحات الجميلة.
لابد إذا من أحرف يكتب بها الشاعر ليعيد تشكيل ما خلقه الرحمن وأودعه خلقه. هذا الخلق يحاول الشاعر أن يركز فيه على أنثاه “الرمز” – الأنموذج – “المثال”، تلك القابعة في وجدانه، يود لو أنه يخرجها كائنا حيا بين يديه. كاملة النشأة والتكوين، كما حواء الأولى ولكن له وحده.
تلك الحروف والكلمات تساير هذا التشكيل والتكوين “لحبيبته” لطيفها الذي يعيش معه ويحيا به، حياً بين جنبيه، في خياله، في كيانه وكأنه جزء منه، لدرجة الوصول إلى الخيلاء تباهيا بها. وإن هي في هذه الحال إلا قصيدته ذاتها. إذ تتوحد لديه الأنثى بالقصيدة والخيال الذي أنشأها في ذهنه، في وجدانه. وكأنه يقول لنا هذه هي أنثاي، قصيدتي، بل كل قصيدي الذي عندها – تخرُّ – بمعنى تتهاوى كل أنثى غيرها ولا تستطيع أن تغوي فؤادي أو تستميله نحوها. نعم هي وحدها من توحدت في قصيده حتى شعر بالفخر والخيلاء إذ شكّلها على أحسن صورة مشتهاة، تحرك كل نوازعه ورغباته الطبيعية ليسقط كل إغواء أنثى غيرها في العالمين. فهي وحدها الذي سيبدأ بتشكيلها، بإعادة اكتشافها، بخلقها من جديد ولكن بالحرف والكلمة، بالصورة البلاغية. بقصيده، فهي قصيدته الوحيدة والمتفردة التي قد لا يوجد مثلها بين إناث هذه الدنيا لأنها ليست من طينتهم، إن هي إلاّ من تصوره ولذا هي له وحده لا يشاركه بها أحد ولا تستطيع نساء الارض جميعهم أن يستملنه يوما.
وفي آخر بيت في هذا المقطع وأظن أن سيأتي مقطع بعده ليكمل لنا صورة تلك الأنثى، صورة حواء، ولكن حواء التي تخصه. في آخر بيت من المقطع الأول يبدأ شاعرنا بوصف هذه الأنثى بقوله:
وجه صبوح مثل “توليب” الجنا
وإشارة من كفه تكفيني!
وهنا نجده قد أشار بالجزء إلى الكل، بالوجه إلى كامل الحبيبة، فالوجه هويتها الأساس، فيه جل المنافذ إلى النفس، إلى الوجدان، إلى الذات ككل. ولذا جاز له أن يقول: وإشارة من كفه – أي كفها – تكفيني لأبدأ بهذا التشكيل والتكوين.
والتكوين هنا والتشكيل قد يعني به أيضا بدء تلك العلاقة وتنفيذها حقيقة إن تمكن من إخراجها من خياله إلى القصيد فلعله يجدها أمامه كائنا مكتمل التكوين والوجود.
ويحق لنا أن نتساءل لماذا عنّون شاعرنا قصيدته هذه بهذا العنوان، “جِبلِّة التوليب”؟
ربما لأنه أراد أن يعيد تكوين معشوقته بحيث تحمل أجمل وأروع الصفات في جبلتها، في طبيعة تكوينها. أن تكون كما زهرة التوليب في حقيقتها. تتضمن كل هذا التنوّع الشاسع ما بين الأناقة الملكية في مظهرها إلى رهافة الحس والرومانسية. رقيقة، قريبة من القلب، متلونة ولكن بالمعنى الإيجابي لهذه الكلمة، بحيث تُظهر له غناها النفسي وخصوبة مشاعرها، غناها بكل معاني الأنوثة من حب واحتواء، تحتضنه وتلتف من حوله كما طبيعة بتلات هذه الزهرة، ورغم هذا الإحتواء إلا أنها تُبقي بعضا من جوانبها غامضة، عصية على الفهم ليبقى شغوفا بها، لا يمل من قربها. معمرة كهذه الزهرة لكنها تحتفظ بكامل رونقها لأطول فترة ممكنة، تهبه جمال الجسد والروح في الآن ذاته عبر كل ألوان وأشكال شغف المرأة بآدمها.
متجددة في عطائها دون كلل أو ملل، يتوالد اهتمامها به كما تتوالد بصيلات هذه الزهرة في كل مرة تُقطتف فيها أزهارها. يريدها ذات ديمومة حب متفرد لا يموت طالما تسري الحياة في عروقها، تحتمل أجواءه النفسية كشاعر وجدانه متقلّب، سريع التأثر، حساس.
باختصار يريدها مثال، أنموذج؛ من الحيوية والجمال والكمال. فريدة بفرادة ذاته، لا توجد إلا في خيالاته وتصوراته هو وحده، وبشروطه فقط. أنثاه التي تشترك مع زهرة التوليب بكل صفاتها وتزيد عليها بأنها خلقت في كيانه هو. في تربة حسه المرهف التربة الوحيدة المناسبة لتخليقها حيث العناية الفائقة بها حتى تمدّه بكل هذا العطاء، فهي في حد ذاتها آية للحب وللعطاء وهي التشخيص الحقيقي للجمال. بذا تكون جديرة بجنونه بها.
بهذا يتضح الرمز الأولي والأساسي في القصيدة – توليب الجنا – من جهة وجبلة التوليب من جهة أخرى. فهذه المعشوقة من جنا غرسه، وهي جنته التي يلوذ بها، وهي التي مال إليها وانكبَّ على الإهتمام بها.
وهو بعد أن رسمها في مخيلته كما شاءت ذاته الشاعرية المولعة بالجمال نتساءل، تُرى أين سيبحث عنها ليجدها في دنياه إنسانة حقيقة لا مجرد تصور مجردٍ من حيوية الحياة، ليأتينا الجواب من خلال هذه الأبيات الشعرية:
في بذرة التفاح أبحث عنك كي
أجد السكينة في جنوح عيوني
وبكل ما لا يشتهي غدنا الذي
أوحاه لي رشف الخطايا الدون
فغسلت فيك خطيئتي وقصيدتي
ومسحت دمع الخصف والتأبين
وما هذا البحث إلا لإيمانه بوجودها الحقيقي وإن سبق التصور الرؤية. ولكن أين يكمن هذا الوجود؟ إنه وكما أجاب شاعرنا هي في أصالة الكيان الأنثويّ. في عمق حقيقتها. في “بذرة التفاح” حيث تكمن بزخمها كله وليس في ثمرة قد تفسد إن كانت مجرد تفاحة إن قضمت كان مذاقها الحقيقي في أول قضمة وهو يريدها بكلها دوما بكامل مذاقها حيث لا ينتقص منه شيئا، أينما زرعها في ذاته نمت وأنبتت شجرة تطرح له تفاحاتها كل حين تُشْبِعُ ذاته بكل تشعبات هذه الذات، نفسا وروحا وعقلا وجسدا بحيث تشبع رغبته بالحياة بشتى ألوانها وتنوعاتها تمتد جذورها فيه كما ترتقي أغصانها وفروع هذه الأغصان حتى يمتلئ بها.
ولكن لِمَ كل هذا! والجواب، فقط من أجل أن تسكن نفسه إليها وتكف عيناه عن البحث المضني عنها، من أجل أن يصل إلى جنته ولتنتهي عذاباته كلها.
في جمرة التنزيل كانت بيننا
أسرار كل غواية وظنونِ
وجنا يد، فنن تلون خطونا
فوق الجبال حكاية المجنون
أوحى دم لدم العبور مواعدا
في كهف ديقيانوس رحلة نون
قطعت حبال الوصل مزق أحرفا
دلّى الحضارة في جراح عيون
ومحا البصائر كلها بقميصه
ذنبا يؤسس في الخلاص مئيني
ويبدو أن شاعرنا قد وجد أنثاه لكن وصلهما لم يتم فرغم كل هذا العشق الذي اشتعل أتونه فيهما حتى أصبح كمجنون ليلى يهيم على وجهه رغم أن لحظة انبثاق هذا الحب الذي أشار إليه في عبارته – في جمرة التنزيل – كانت كلحظة خلق حواء من ضلع آدم. لكنها لحظة اختلطت فيها كل قصص اختبارات التصديق والإيمان وامتحاناتها ما بين الكهف الذي لاذ به شباب آمنوا بصدق قضيتهم فخافوا على عقيدتهم من كاسر ظالم. وذا النون إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت، وخدعة إخوة يوسف لأبيهم إذ حاولوا التخلص من أخيهم، لكنه هنا هو الفاعل كنتيجة لما حدث بينهما، هو وهي.، فقط من أجل أن يتخلص من كل حب عدا حبه لها، إذ اعتبر أن كل حب لغيرها ذنب عليه مسحه بقميص الصدق والإيمان ليخلص لها وحدها. جميع هذه القضايا إذا أصبحت قضيته في هذا العشق الذي تحول في ذاته إيمانا، أراد أن يلوذ منه به، فيها، بعيدا عن أعين الفضولين وظلمهم لهما من جهة، وبعيدا عن ظنونها السلبية به من جهة أخرى فكان هذا الحب ضحية كما “يوسف وأصحاب الكهف” حتى – محى البصائر كلها بقميصه، ذنبا يؤسس في الخلاص مئيني – فإن كان قميص يوسف قد ردّ البصر إلى عيني “يعقوب” فإن قميصه هو قد محا بصائرة وإن أبقت على بصره خلاف ما حدث ليعقوب، كناية عن شدة التيه قبل أن يرتد إليه يقينه بهذا الحب، لتؤسس وتجذر ثقلا سيحمله في صدره طالما لا يتمكن من وصالها.
أما لماذا أَدَّعِي أو بالأحرى أجْزُمُ بغياب هذا الوصال. فسيأتي بيان ذلك في المقطع الأخير من القصيدة إذ يقول:
أحشاؤه وطن يبدد روحه
في كل جيل شهقة التخمين
وضحية تلو الضحية نطفة
سحلت بقايا الأرض نحو منون
موصولة بعذابها أنثى إلى
قبر أخير مثقل بكفون
نجدان في صبر الزفير جبلّة
في بعضها طين الهوى المسنون
أكملت كل حروفنا ونثرتها
عربية في قدها المعجون
ما زلت أحكي للسراب جحودها
وأذيب فوق جليدها “نيروني” !
وأحشاء الإنسان جميع أعضائه الداخلية من قلب وكبد ورئتين.. الخ. هذه الأحشاء تتألم وتتعذب ممّا تعاني منه روحه المعذبة بهذا الحب حتى لتكاد هذه الأحشاء تضيق بالروح العاشقة كنتيجة لما تسببه لها من معاناة وآلام. وكأن هذه الروح قد توزعت على الأجيال كلها فكما حمل آدم ذريته في صلبه جميعهم كذر، فها هي روحه تتشظى في هذا الذر كله باحثة عن يقين يطمئنها، وكأن روحه وهي تحمل عشقه وتتخلل هذه النفوس – فالحب واحد – مهما تعدد المحبين تتوزع المعاناة بينهم وكأنها معاناة واحدة، لقوتها تؤدي إلى الموت وإن لم يكن موتا حقيقيا وإنما معنويا، إلا أنه بذات مذاق الموت الحقيقي. هي ذاتها المرأة التي وجد فيها بعض الصفات التي تمنى لو أنها غير موجودة فيها؟
وكما يعاني هو فهي أيضا تعيش المعاناة ذاتها كونها جزء من هذه الروح الكلية الإنسانية المشتركة وكونها على صلة بهذا الحبيب، تعاني حب من أثقلته آلامه وعذاباته التي جعلته يعاني الموت المعنوي أكثر من مرة فكأنما هي تتجه بذاتها إذ أحبته إلى قبر ملئ بأكفان عديدة.
وفي آخر أبيات القصيدة يعترف شاعرنا بعد كل هذا التوصيف بأهم أسباب معناته، بل بالسبب الحقيقي، كجحود حبيبته وبرودة إحساسها به، ذاك البرود الذي يطفئ لهيب عشقه، رغم معرفته بصدق معاناتها هي أيضا.
ولكن في النهاية وبعد هذا التحليل النقدي لهذه القصيدة يصح لنا أن نثير تساؤلا يستنهض فكر وخيال القارئ ، تُرى هل أراد شاعرنا إعادة تكوين تلك الحبيبة الحقيقية التي تعيش في واقع حياته أم أنه أراد أن يعيد التشكيل للتصور المثالي الذي استبد بمشاعره فقط ليتمكن من العثور على من تقترب بصفاتها من ذاك الأنموذج المتخيل بعد أن عثر على حواءه الآنية التي وجد فيها بعض الصفات التي تمنى لو أنها غير موجودة فيها؟