النص الشعري إن لم يتضمن ولو جزءا من البلاغة لصار نوعاً من الجمود، لأن اللغة العربية ليست لغة مغلقة أو متقوقعة على ذاتها، إنما هي عالم كبير واسع المساحات ومترامي الأطراف، تُساعد المؤلف والناظم على الإتيان بكل ما هو جميل وجديد وبليغ، وخاصة إذا امتلك هذا المؤلف أدوات التنقيب الصحيحة، ليكتشف ما يعينه على صياغة نصّه بأسلوب مميز يستطيع التغلغل والنفوذ إلى ذهن المتلقي أو الناقد، وكلاهما يبحث عن ضالته.
لذلك عندما يستطيع المؤلف أو الشاعر من استخدام هذه الوسائل بشكل مُتَّـزِن من غير تكلّف أو ابتذال معتمداً على أساليب اللغة العربية في تركيب الجمل وإبراز معاني الألفاظ ببيانٍ وبديع، في هذه الحالة نقول إنه تمكَّن من صنع نص أدبي مثير طازج لذيذ متبّل بنكهة البلاغة لجذب الذائقة السليمة، وإيصال القصد والهدف إلى فهم المتلقي، وهذه الأساليب هي التي ندعوها بالأساليب البلاغية.
وكعادتي في تقديم المقالات النقدية أودُّ تقديم النص قبل التحليل والنقد، ليتسنى للقاريء الاطلاع على ما سنستعرضه.
أمامنا نص شعري قوامه (27) بيتا من نظم الشاعر العربي المصري (ماهر الأمين) ماجستير قانون، والقانون لم يكن بعيداً عن اللغة ومحسناتها البديعية وبلاغتها، لكن مَلَكَة النظم والتأليف هي التي تقود صاحبها إلى صنعة الشعر. لذلك نجد شاعرنا قد استوعب الحالين، لاسيما أنه نشأ في بيت قد احتضن النظم والقريض الأصيل، فوالده الأستاذ (محمد أمين عبدالنافع) -رحمه الله تعالى- أحد شعراء معجم (البابطين) لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، والذي كان يتّبع العروض الخليلي، ويحرص على استخدام البديع وخاصة التصريع في مستهل قصائده -وليس التصريع بالأمر اليسير- إذاً لابد لهذا القلم أن يلد قلماً ماهراً ملتزماً ذكياً كـ (ماهر الأمين).
رغم أن النص يحمل أكثر من محطة نقدية لوفرة الإشراقات البلاغية فيه، إلا أن المتفحص الدقيق سيجد أسلوباً بلاغياً قد اصطبغت به القصيدة، وهذا الأسلوب هو التجنيس أو الجِناس، وهو علم يتفرع من البديع الذي هو أحد أقسام البلاغة العربية، وهو عند علماء البديع (اتفاق الكلمتين في كلِّ الحروف أو أكثرها مع اختلاف المعنى). وهنالك تعاريف أخرى لكنها تنضوي كلها تقريبا تحت هذا التعريف. وقد استخدمه العرب بكثرة في الشعر، فهو يكسبه جمالا وحسنا يعود على المعنى للتمكن من ذهن وتلقي السامع.
والجِناس له الأثر البالغ في رُقيّ النص الأدبي وارتقائه، فهو قادح وفاتق لقريحة الناظم نحو الإبداع، ولذلك اهتم الكتاب الأقدمون بهذا الشأن حتى تسابق فيه المتسابقون، وأبدع فيه الناظمون والناثرون.
لذا سنطل بإضاءة كاشفة على (الجِناس) الذي استطاع الشاعر أن يوظفه في قصيدته هذه، مستعرضين بعض الأمثلة التي تقدم فائدة نقدية للمتلقي وللقاريء الكريم.
قدَّم الشاعر النص في (حب العراق) يتصدره عنوان (قيد الجراح)، وهذا التقديم والعنوان لهما دلالة أخلاقية وطنية ودلالة أخلاقية أدبية في نفس الشاعر. فالخلق الأدبي ظهرَ جليّاً مشرقاً في إهدائه لزميليه، بسبب تأصّل العلاقة وقوة ترابطها، كونه قلماً ملتزماً له بصمته الواضحة في النسج الشعري، ويلتقط المعلومة والفائدة بحذافيرها ليطوعها في نصوصه، كي يرتقي بها إلى عالم الإبداع والابتكار وهذا ديدنه.
لذا نجده قد ابتدأ النص بهذا البيت الشعري:
لكليكما الحرْفُ الذي أنّـقْـتُهُ
والحرفُ مادام الكرامُ مُؤنَّقُ
في هذا البيت برز الإهداء واضحاً، وقد أشار إليه بـ (لكليكما)، وطرَّزَ البيت بالجناس البليغِ. وعندما ينتهي القاريء من قراءته لهذا البيت الشعري سيتوقف المتلقي إجباراً لمراجعة لفظي (أنَّـقتَهُ، مُؤنَّـقُ)، وهذا التوقف هو نوع من الشعور بجمال البلاغة وزهوها. حيث إن هذا الأسلوب في رسم الصورة الشعرية التي تحمل كلمتين (فعل واسم) هو أحد أنواع الجناس، مع حسن اختيار الشاعر لهذين اللفظين الرشيقين الفصيحين.
ويبدو واضحاً بأن الشاعر استخدم حرف الروي القاف (ق) وهو من حروف الجهر ومن حروف الاستعلاء والتفخيم، ويعتني الشعراء بهكذا قافية لغاية في النفس أو لمصاحبة هدف القصيدة.
وكعادته ماهر الأمين يجيد نسج المطلع، بل ويوليه اهتماما بالغا تقيّداً بمقولة أهل الصَنعة: الشاعر هو مَن أجادَ المطلع والمقطع، فيأتي ببيتٍ ثان:
جُرْحي هناك وذاك جرحي جائِشٌ
يا ذا العراقُ وكلُّ جُرحٍ مُقْلِقُ
وبما أن النص مُهدى إلى شخصين يسكنان العراق ويكنُّ لهما حباً واحتراماً، فلابد أن يأتي بألفاظ تليق بالمقام والمقال، فنسجَ بيتا بألفاظ رشيقة رخيمة فصيحة مُبتعدا عن كل لفظ لا يناسب الهدف والفكرة، حتى كرر (الجرح) ثلاث مرات وبجناس جميل، فجاء النسج محملاً بالإهداء والمحبة وتقاسم هموم وجراحات الوطن. وبهذا صنع مدخلا ذكيا إلى الشروع باستعراض الفكرة في مقطعٍ بهيّ.
ثم يوضح هذا الإهداء بالتصريح المباشر في البيت الشعري العاشر من قصيدته:
” (غازي ) وقد صاغ الحروف قصيدة.. (والقاسمـيُّ) الألمعـيُّ الأشْدَقُ “
الذي يتمعَّن في قراءة القصيدة سيجد الشاعر قد حَمَّلها بجماليات اللفظ والموسيقى، حتى يجد القاريء الجيد بأن الألفاظ تتراقص أمامه بخفة ورشاقة مما تزيل الجمود عن النص، وتمنع الملل من التغلغل إلى ذاته، بل وتجعل النص برمته كتلة متحركة، وخاصة عندما يكون الجناس ليس حكراً على بيت شعري أو بيتين أو ثلاثة، وموزَّعاً في أركان النص وأقطاره، بعيداً عن التكلف الذي لو كان حاضراً لكان اكتشافه في غاية اليسر والسهولة، لكن حرفية (ماهر الأمين) والتزامه الدرسي والأدبي جعله لا يحيد عن بصمته الخبيرة الذكية.
وعند مطالعتنا للنص نجد التوافق اللفظي حاضرا مع الجِناس، بل وحتى مع المعاني، مما أضاف تلك المسحة البلاغية الجميلة عليه. فمثلا عندما نقرأ هذه الأبيات الثلاث:
” إنّي التمستُ عَبُوقَها مستنشقا
وظننت أنّي دونها مشتنشقُ
وحلَمت أني في بلاط ملوكها
أتلو القصيدَ فتشرئِبُ الأعْنُقُ
فلئن أطعتُ من الجوانحِ ما دعتْ
فأنا المُطيعُ وقائل ومُصّدقُ”..
نلاحظ في البيت الأول أن الجناس قد وقع في الاسمين (مستنشقاً، مستنشقُ)، ثم يتلوه بيت شعري خالٍ من الجناس، ثم ينسج ثالثاً فيه جناسٍ مغاير من فعل واسم (أطعتُ، المطيعُ)، وهذا جناس يختلف عن الأول، حيث استطاع أن يستعرض ويصنع توليفة نغمية تجذب الذائقة، متولدة من الاختلاف والتباين في الجناس وانتقاله بين الأبيات الشعرية.
والمُجَّنِس يلجأ عادة إلى هذا النوع من البلاغة لجذب الذائقة، لكن عليه أن يستخدمها بذكاء. فمثلاً نجد المتلقي يبدأ بقراءة ومتابعة النص، وإذا به يجد لفظا مُستحدثا يُغاير ما سبقهُ من نظم ونسج، فيروق له ويبعد عنه الملل والسأم، وهذا اللفظ المغاير الذي استحدثه الشاعر هو الجناس، ولو كان الناظم مسترسلاً بنفس نسجه وبنفس النول لكانت الحصيلة هي الاستطراد والتطويل الباعث على الانقباض والضجر. ولأن الشاعر إذا نشر نصّاًما فإنه يصبح ملك العام، إذاً لابد له من مراعاة الأذواق لشـدِّ انتباهها وجذبها.
الشاعر ماهر الأمين استطاع أن يختار في نظمه اللفظ الصحيح، ويضعه في مكانه المناسب ليستقيم به معنى الجملة، وعند استخدامه لبديع الألفاظ وفصيحها لبيان وتوضيح المعاني، يكون بذلك قد قدَّم لنا أُنموذجاً لا يخلو من مسحةٍ بلاغيةٍ رصينة.
فلنتابع نسج ماهر الأمين في هذا الشأن:
“إنّي التمستُ عَبوقَها مستنشقا
وظننت أنّي دونها مشتنشقُ”
نجد في هذا البيت الشعري قد استخدم الشاعر لفظة (عبوقها)، والعبق هو الرائحة الطيبة، ولذلك ردفها باللفظ (مستنشقا)، والاستنشاق هو إدخال الهواء إلى الرئتين عن طريق الأنف للشم والتلذذ بالرائحة، وحَسَناً فعل الشاعر، فلو استخدم لفظة (الشم) بدل (الاستنشاق) لضاعت البلاغة، لأن الشم يستعمل أحياناً لاختبار النكهة والعطر، أما الاستنشاق فهو قمة الاطمئنان والترف للتمتع بالرائحة الزكية، ثم جعل مِن هذا الاسم جناساً مع اسم آخر (مُستنشقُ). وهنا تكمن روعة النظم في توظيف اللفظ المناسب في الجناس لإفادة المعنى، لأن لا فضيلة للجناس إلا بمناصرة وإفادة المعنى.
إن الجناس يعتبر حِليَة لفظية فاعلة في الإيقاع. فهو يشكل الموسيقى الخارجية للنص عندما يرافق الوزن والقافية. لذلك اشتغل الشاعر على هذا النهج -فهو لا يجعل نصيحة أو معلومة بليغة خلف ظهره- فوظَّف هذا الجناس ليجعله رديفاً للوزن والقافية، لذلك نجد جناس الكلمة التي يختتم بها البيت الشعري مرادفا للوزن والقافية، كما في الكلمات التالية الموزعة في عدة أبيات شعرية منها:
(أرقتُ، يؤرِق) و(موثقاً، أوثقُ)، و(فرّقته، فتفرقوا) وغيره من الجناس المتناثر بين أرجاء القصيدة:
“فَلَكمْ أرِقْتُ تشوفا وتلهفا
وحملتُ بين أضالعي ما يُؤرِقُ”
“أعطيته للأكرَمَيْنِ وموثقا
والدين أحْفظ ُ للكـــــــــرامِ وأوْثَقُ “
“هل فرّقته قبائلٌ وعشائرٌ
أم بُثَ فيهم فتنة فتفرقوا”..
ولا يكتفي شاعرنا بجعل الجناس مرادفاً للقافية من أجل أن يخلق جرسا موسيقيا جاذبا، بل طرز بعض الأبيات بتوليفة جناس جميلة وبألفاظ رهيفة منمقة مأنوسة تحتل حيزاً وسط النسج والنظم كما في البيت التالي:
“فلئن أطعتُ من الجوانحِ ما دعتْ
فأنا المُطيعُ وقائل ومُصّدقُ”
“كبرى الحوادث لو تريث ذو الحجى
فعساهُ يعرفُ ما جناهُ الأحمقُ”
حيث وقع الجناس في البيت الأول (أطعتُ، المطيعُ)، وفي البيت الثاني (عساهُ، جناهُ)، وهذان الجناسان قد تخللا النسج ولم يردفان القافية.
ثم ينسج أبياتاً تُحسب له حقاً، فهي تحمل جناسين في البيت الشعري الواحد، مع الاحتفاظ بمرافقة الجناس للقافية، وهذا من أروع النظم الذي يتنبَّه إليه النقاد ويتسابق إليه أهل الشعر، فمثلاً:
“أعطيته للأكرَمَيْنِ وموثقا
والدين أحْفظ ُ للكرامِ وأوْثَقُ”
فقد جاء بـ (الأكرمين، للكرام) وهو جناس، و(موثقاً، أوثقُ) وهو جناس آخر.
ويختم الشاعر قصيدته ببيت رائع يحتوي على جناسٍ أيضاً:
“لكما السّلامُ صويحبـيَّ برَبْعِهِ
وسلامُ مِنْ مِصْرَ العروبةِ أعبقُ”
حيث جاء بلفظة (السلامُ) في الشطر الأول وتعني التحية، و(سلامُ) في الشطر الثاني وتعني الأمان، وقد اقتبس الشاعر هذا اللفظ من الآية الكريمة: “ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ” الحجرـ 46، وقد وقع الجناس بين اللفظتين. ويختتم الشاعر ببيت يحوي جناساً أيضا، فهو يعي هذا القصد، ليقول بأنه قد جاء بنص احتوى بلاغة، والجناس أحد أدواته التي استخدمها فيه.
وبعد هذا العرض لابد أن نستعرض علامات التقييم لهذا النص الأدبي:
- أن نظم الشعر هو نظم كلام، وهذا الكلام لا يمكن الارتقاء به إن لم يضع المؤلف أدواته بين يديه ليرتقي بالنص إلى مرتبة البلاغة، والشاعر (ماهرالأمين) قد جهزَّ أدواته مسبقاً لصبغ قصيدته بأنواع الجناس رغم وجود عناصر بلاغية أخرى، وهذا ما كان جلياً واضحاً في نظمه.
- الجِناس في النص لم يحضر بتكلّف أو لغرض الاستعراض، بل جاء في مواضعه البلاغية والنسجية الصحيحة والدقيقة، والتي طرزتْ النص في أكثر من حيز لجذب المتلقي.
- الجناس يهتم بجرس الكلمة وكيفية تأليف حروفها بحيث ينسجم هذا التأليف ليشكل نطقاً جاذبا، وهذا قد أشرق في أكثر من محطة وأكثر من بيت شعري في القصيدة.
- الشاعر ماهر الأمين لا يأتي بنصوصٍ متماثلة أو متشابهة تفرض الملل، بل نجده يُحسن التفكير في بلورة الهدف لينظم نصا جديداً يحمل عناصر البلاغة والإبداع كالنص الماثل أمامنا.
- النص من النظم الجيد، والذي يحمل جناسا متنوعا وصوراً شعرية جميلة وبليغة، وهذا ما دعانا إلى نقده وبيان محطات جودته.