بي حيرة القارئ أمام مجموعة (بي حيرة الصيا ) للشاعر العربي المصري ناصر رمضان إذ يقول الفلاسفة: إن الإنسان مفطور على حب ثلاث، الحق والخير والجمال، فإذا بالشاعر يخالفهم ويقول: إن الإنسان مفطور على حب ثلاث: المرأة والشعر والوطن. وسرعان ما يذوب الخلاف بين الفلاسفة والشعراء إذا ما تأملنا اتحاد الأقانيم الثلاثة الأولى بالأقانيم الثلاثة التالية، فالشعر مرآة صافية تعكس حقيقة الخير والجمال وما هو إلا امرأة خالقة ووطن أم.
والشعر رسالة مقدسة من السماء إلى الأرض تعادل موضوعيا دوره في يقظة الشعوب وتحريضها على الثورة ضد الطغاة، فللكلمة دور لا يقل عن دور السلاح بل دوره هو الأهم في إحداث التغيير، ولذلك شبه الشعر في قصيدة أخرى بسوط من النار وشبه الكلمة بالجمرة التي تحرق:
جمرة الضاد في الثوار يشعلها
من قلبه وعيون الناس ترعاه
على العتاة وحين البأس يلهبه
سوطا من النار لا تخفى شظاياه
ولذلك نرى الشاعر يمنح اهتمامه لمشكلات وطنه العربي إلى درجة أنه نصّب نفسه محاميا عن الضعفاء والفقراء والمظلومين، فقصيدته (بلاد العرب) كتبها على جمر ونار ليقف إلى جانب الغريب والشريد والطريد والمهجر، ويقف إلى جانب الطفولة المتعثرة؛ فالصغار هم دوما ضحايا الكبار في الحرب والسلم:
إني عرفت الله في نوح الغريب
على الديار إذا تخطته الديار
ورأيت وجه الله في طفل تعثّر
كي يسير مع الصغار
هذي بلاد العرب يا ويلي
ويا ويل الصغير
إذا قتلته
يد الكبار
كما ينافح الشاعر عن قضية العرب الكبرى؛ قضية فلسطين التي تحتل مكانا عميقا في نفسه، ها هو في قصيدته (القدس) يبدأ خطابه لها بنهيها عن الغضب معلنا لها توحّده بها؛ فهي الجزء المغتصب من هويته، وعروبته، وإسلامه. لذلك يبثهّا أعمق مشاعره ويعلن ولادته الحقيقية المقترنة بإرادته الخالصة فيها، ويحوّل نفسه إلى حجر في وجه الأعداء؛ يشجّ وجودهم من الرأس إلى العمق، ويعيد سيرة الحجر الفلسطيني المقاوم المنتفض الذي سيعيد إلى العرب هذه الأرض المقدسة؛ مسقط رأس البطولة والحرية والكرامة؛ إذ لن يقف أي عقم مهما بلغ دون ولادة الرجال من رحم آلامها:
لا تغضبي أبدا
فذاتك زيت ذاتي
يا قدس حسبي إنني حجر
يخيف عداتي
وليست القدس وحدها هي التي تحظى برغبة الشاعر في الاتحاد معها، والحلول فيها؛ فهو منذ القصيدة الأولى في الديوان تخرج أناه كي تعانق (الأنت)، ويسرع ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب باندفاع عاطفي لا يمهل الشاعر كثيرا حتى ينتقي مفرداته، ولذلك يعلو المعنى على اللفظ فيعانق ذاته في عناق محبوبته بغيرية تنتهي إلى عناق ذوات كثيرة منها، ذات الفلاح والعامل والسلطان والعاشق؛ ما يؤكد وظيفة الشعر المجتمعية والكونية.
بي نشوة الفلاح
عانق فأسه
وتتأكد الوحدة البشرية التي ينشدها الشاعر في الإكثار من استخدام صيغ الجمع تعبيرا عن احتضان الجماعة للفرد والعكس، ففي قصيدة بعنوان (وحدي أغرّد) يتناقض العنوان مع ألفاظ الجمع الكثيرة؛ (الصباحات)، و(آهات)، و(رؤوس)، و(انتصارات)، و(أماكن)، و(أسحار)، و(حكايات)؛ سبع جموع في عشر جمل شعرية قصيرة توضح علاقته بالوحدة التي تبدو محيّرة أحيانا بين راغب فيها وزاهد عنها. فيتوحد مع اللغة والمرأة اللتين تبدوان في قصائده وجهين لعملة واحدة حتى لا يمكنك في خطابه تأكيد أيّهما المخاطبة؛ فكلتاهما نبع صاف للعطاء والجمال، وتظل العلاقة بينه وبينهما علاقة عابد بإله معبود.
سأكون نفسي نائيا بالروح
أحتاج أن أبقى وحيدا
أملأ الدنيا عنادل
أما العلاقة بين الشاعر والشعر فهي علاقة عاشقين يتناوبهما التذكر والنسيان، نفي ظل علاقة حب أبدي لهذا الفن الراقي الذي جسّد أمومة لغة الضاد الأحب إلى قلب الشاعر:
ولا صحوت بدون الضاد أعشقها
والضاد تمنحني ما كنت أهواه
والشعر في عرف الشاعر هو الحياة بفطرتها وتلقائيتها وبساطتها، ما يجعل الشاعر يقرنه بالحب:
وأجمل الشعر ما يأتي بلا عنت
وأجمل الحب من بالعقل نهواه
ولذلك يستسلم طبع الشاعر للنداء الأول الذي تطلقه موهبته فيصوغه بتفرد الواثق، وقد أصبح الشاعر في ميدان الشعر عارفا وعاشقا وراهبا في عالم من التصوف الشعري والفني، والعلاقة بينهما علاقة المولى بالعبد.
وآية العلم فيه أنه نغم
وآية السحر فيه ما جهلناه
الشعر يعرف من بالحب يكتبه
وراهب الشعر صار الشعر مولاه
تلك هي الغنائية والطبع والعفوية أبرز سمات المجموعة؛ فماهية الشعر في اعتقاده وحي سماوي:
لا تحسبوا الشّعر أوزاناً نردّدها
لكنّما هو وحي ما عرفناه
الشعر نور حباه الله مكرمة
للمرء تذكر وأحلى مزاياه
المرأة و الحب:
عالم الشاعر جسر بين الحقيقة والخيال، فهو آدم معاصر، وتفاحته تارة وهم وتارة حلم، ولأنّ الشاعر كائن من لحم ودم نجده يقع فريسة تناقضاته بعدما ناله اليأس من الظفر بمحبوبته، فيختار الهزيمة منصاعا لقدره التعيس، وبعد أن تحدث الشعراء قبله عن قميص يوسف هاهو يقلب الآية فيتحدث عن قميص زليخا ويتحول اللقاء بينهما خيالا وصلاة وفريضة ونافلة؛ كل ذلك ليجعل من الحب دينا كاملا.
المرأة محور المجموعة؛ فهي الفراشة التي تترك أثرها أينما حلت في هذا العالم وفي قلب الشاعر وروحه، لذلك يقرن بين حبها والحرية والنضال، ويسند لها أدوارا تمارسها لتسهم في تقدم المجتمع الذي تنتمي إليه. وتبدو حاجة الشاعر لها حاجة الطفل إلى أمه، يشعر بها كما يشعر المؤمن بإلهه، فهو المؤمن بلا شك بقدرتها على التغيير والتحرير، يقول:
أحتاج حضنك كي أعود صغيرا
فأنا بقربك أعشق التغييرا
وهواك قبلة عاشق
فهم المراد
وعانق التحريرا
المرأة حقيقة الحقائق يرمز لها بسعاد أكثر من مرة؛ فسعاد اسم تكرر في قصائد القدماء قبل أن يظهر في قصائد الشاعر، ويتحول في قصائد أخرى إلى اسم ليلى:
بانت سعاد
ورب العرش ما بانت لها غنى
ولا صلّت ولا صامت
ولا عشقت بوادينا
ولا قعدت ولا قامت
جماع الأمر يا ليلى
بأنّ العرب قد نامت
وأمام ليلى وسعاد وغيرهن مهمة جسيمة هي إيقاظ النائمين، وتحريك الساكنين؛ لينتموا إلى قضاياهم المصيرية ف إذا ما تقاعست عن أداء هذه المهمة يثور الشاعر عليها فهي المستعبدة لموروثاتها، وغير القادرة على تحرير نفسها، ولا فعالية لها في مجتمعها؛ وإن امرأة عاجزة كهذه لا تمتلك الجاذبية التي تفترضها روح العصر فيها.
ولأول مرة يصادفنا عنوان (ثقافة) لقصيدة يتساءل فيها الشاعر عمن يضطلع بمهمة تثقيف المجتمع والنهوض بحالة النساء من الغثاء والرق والجهل:
جماع الأمر يا ليلى
بان العرب قد نامت
وفي عرف الشاعر كل شيء في الوجود هو أنثى، فالقصيدة امرأة، واللغة امرأة، والحياة امرأة، والوطن امرأة. وما حضور المرأة إلا حضور للحياة والحب الذي يغدو الأمنية الأغلى عند الشاعر، والأمل الأكثر بقاء وسموّا:
عمر تولى وخلف العمر أمنية
وقل من عقله يستوعب الأملا
ويبلغ الحب منتهاه عندما يتقمص الشاعر الرجل روح المرأة المحبوبة؛ ويتحدث بلسانها بعد أن يختبر أحاسيسها فيكتشف أنها قد تلغي ذاتها لتتصل بذات المحبوب وتتلمس يقينا كل آلامه.