عندما وصلت أوروبا أواخر التسعينات وبالتحديد منتصف أكتوبر من سنة 1997، كانت أول إقامتي ببروكسل ضيفا على منزل أحد أقربائي بحي مولانبيك الشهير، قضيت به ثلاثة أيام بلياليها لأنتقل مباشرة بعدها إلى حي مصنف ببروكسل على أنه حي تركي. كان الانتقال من الحي المغربي بامتياز إلى الحي التركي كفيلا بأن يعطيني صورة نمطية عن المغاربة في ذهن الأتراك ورحلة مختصرة في التاريخ لتبين لي التمايز بين أمتين مسلمتين لكن لكل منهما خصوصيتها وتركيبتها وهويتها، المغاربة كانت آنذاك سمعتهم -وما زالت- سيئة جدا مخترقة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ودينيا ومذهبيا وأخلاقيا، تختصر في التصور العام البلجيكي في التحايل على القوانين البلجيكية خاصة حقي العمل chomage)) وحق التمريض، أما البصمة التي علقت بالجيل الثاني والثالث منهم آنذاك فكانت الدعارة بالنسبة للإناث والسرقة خاصة سرقة العجائز وراديوهات السيارات والمحافظ، وتجارة المخدرات خاصة الحشيش بالنسبة للذكور.
أما الأتراك فعرفوا بالتجارة وبارتباطهم الوثيق ببلدهم تركيا ووحدة كلمتهم على مرجعياتهم السياسية “المنتخبة” رغم انقسامهم الشديد عليها قبل انتخابها، وارتباطهم المعنوي بمرجعياتهم الدينية أو العلمانية.
انتقلت من بروكسل للإقامة بإحدى أجمل المدن البلجيكية المطلة على بحر الشمال، مدينة كنوك Knokke، لبثت بها قرابة الأربع سنوات لأكتشف صورة أخرى للمغاربة في ذهن سكان هذه المدينة الصغيرة التي لم تعرف كثير نزوح منهم إليها، دفعت ثمنها من نفسيتي وأعصابي وكلما بنيت صرحا لهويتي بعد عناء وصبر هُدم، ولكم أن تتخيلوا من هدمه، وبكل تأكيد لم يهدمه أولئك الفلامانكيون -في مجملهم- الذين ينصاعون أولا وأخيرا لمنطق الأمور، بل لم يهدمه إلا بنو جلدتي من المغاربة والذين وكأنهم استساغوا نظرة الآخر إليهم، فعملوا كل ما بجهدهم لتثبيتها أكثر في مخيلتهم. كان أصدقاء فلامانكيون كثر لي يصفونني بالاستثناء، لكن الاستثناء إلى متى، وماذا عساي أمثل غير ذاتي!
كانت بروكسل محطة إقامتي التالية، حي شعبي مغربي سرعان ما ضقت به لأبحث لي عن مقام بعيد عن هذه المدينة الصاخبة، اتجهت إلى منطقة فلامانكية أخرى صغيرة تبعد عن العاصمة البلجيكية بحوالي 80 كلم، كانت دهشتي كبيرة بها بعدما خبرتها وعرفت خباياها، جالية مغربية صغيرة لا تتجاوز البضعة آلاف، لكنها تحمل كل تناقضات الصراع لا التعايش، الصراع بينها وبين نفسها قبل أن تبحث عن أسباب صراع مع المكون المستقبِل، صراع في المسجدين الوحيدين اليتيمين بالمدينة، صراع بين السلفيين والشيعة، صراع بين أهل الريف وأهل الداخل المغربي، صراع في المقاهي -وهي في الأصل جمعيات ثقافية- التي تروج الحشيش أكثر مما تروج الشاي والقهوة، صراع على نوع الصراع الجديد الذي يجب أن يحل محل الصراع القديم.
فكرت في إطلاق مشروع ثقافي روحي فلسفي يضمد جراحات هذه الأقلية المغربية غير أني كدت أن أوضع على لوائح الإرهاب لديها، بعد سنوات من البناء والسطو على كل منجزاتي الثقافية نقلت نشاطي الثقافي إلى بروكسل لينطلق مشروع المقهى الأدبي. كانت سمة سنتي 2010 و 2011 ببروكسل هي الصمت المبين باستثناء بعض النشاطات المحتشمة هنا وهناك أغلبها وافد من المغرب أو بلدان عربية أخرى، لم تكن بروكسل بعد قد أخرجت طاقاتها ومواهبها، فكان المقهى الأدبي هو المدرسة التي أطرت وأخرجت الكثير الكثير إلى الساحة، منهم من ما يزال يذكر فضل المقهى الأدبي عليه ومنهم من تنكر لكل فضل وجميل، غير أن العقبة التي واجهتنا منذ الانطلاقة هي هيكلة النشاط والبحث عن الداعمين.
فتح الباب على مصراعيه واحتدم النقاش حول المسألة، كانت لدي تجربة منذ طفولتي وأنا عضو في مؤسسة الكشفية المغربية في التأطير والإبداع، غير أني كنت وما زلت أفتقد خاصية طرق أبواب المؤسسات والقنصليات أو السفارات الأجنبية لطلب المعونة أو “الاسترزاق الثقافي”، كان همي وما يزال هو البناء اعتمادا على الذات وعلى مساهمات من يحمل الهم الثقافي معي. غير أن احتكاكي بمجموعة من “الأفراد” الذي تعتبر مدد إقامتهم في أوروبا وبلجيكا بصفة عامة قصيرة جدا ولا تتجاوز السنتين أو الثلاث سنوات، احتكاك اكتشفت أن الغاية منه لم تكن غير المال وتحصيل المال، فبعدما فشلوا في الاستغناء بواسطة الطرق الشريفة وبواسطة العمل والجهد، التجأوا إلى العمل الثقافي من أجل تحقيق ذلك. ولما لم تكن لدينا نفس النظرة للثقافة والعمل الثقافي، حاولوا الاختراق الهادئ بعدما فشلت محاولات توجيههم لنا كمثقفين مغاربة ومبدعين ومفكرين، وفشلت خططهم لتكسير عظامنا فلجأوا إلى المكر والخديعة والوشاية والتأليب علينا وصلت حتى إلى محاولات خلق الفتنة في صفوف البناء الثقافي المغربي، المنفتح على كل التجارب الكتابية العربية والإنسانية، وهذا واضح من خلال الاسم الذي انطلق به: “المقهى الأدبي في بروكسل” والذي أصبح “المقهى الأدبي الأوروعربي”، وكان بمقدورنا أن نسميه المقهى الأدبي المغربي، على غرار ما جاد به الوافدون الجدد: بيت الشعر العراقي، بيت الشعر السوري إلخ إلخ.
الأخطر في كل هذا هو الأجندات التي يحملها بعض المتطفلين على الميدان، فالشعر والكتابة والإبداع عموما حرفة وصنعة لا يمكن أن يسبر أغوارها من ليس من أهلها. لا يمكنني أن أكون عضوا في نقابة أو اتحاد أو منظمة أطباء مثلا وأنا لا علاقة لي بمهنة الطب، كما لا أقبل أن يزاحمني طبيب مثلا اختصاص الشعر ما لم يكن طبيبا شاعرا كإبراهيم ناجي أو وليد الصراف، أما أن تتطفل على مجالي ليس لاهتمامك بالشعر بل لحب سيطرة مرجعيتك في قم أو لندن أو الضاحية الجنوبية أو الرقة علي ببروكسل، ولأنك تحمل مشروع اختراق طائفتك التي تحمل فكرا تكفيريا متطرفا يستهدف أولا أولى الجاليات العربية هجرة وإقامة في بلجيكا لمدة تجاوزت النصف قرن، فهذا مخطط واضح وجلي لكل ذي عقل وبصيرة، الهدف منه شيطنة جالية محددة دينيا وثقافيا وتحيديها من المشهد لأنها اندمجت بصورة أو بأخرى في المجتمع الأوروبي وأثبتت نجاحها ليس كجالية لاجئة من أجل كسرة خبز وجرعة ماء ومبلغ مساعدة مالي تتلقاه كل شهر، بل لأنها بنت بسواعد جيلها الأول هذا البلد الذي انهار تقريبا بسبب الحرب العالمية الثانية، وما زالت تبنيه وتساهم في بنائه بأبناء الجالية الذين وصلوا إلى مراتب وظيفية عليا بفضل كدهم واجتهادهم وصبرهم حتى بلغوا ما بلغوه وحققوا ما حققوه بشهادة الخصم قبل الصديق، سواء على المستوى المهني أو السياسي أو الثقافي أو الإعلامي.
الثقافة والإيمان هي الدينامو الذي يحرك الإنسان، هي العقل والقلب، فمن صفّى عقله من الأفكار الهدامة ومن طهّر قلبه تجاه الآخر كان شريكه في الحياة والإنسانية، أما إذا رفضه تحت أي مسمى كان سواء كان تكفيرا أو غلوا طائفيا فهو يؤسس بذلك لحرب كونية مدمرة، ساحتها أوروبا ولحم مدافعها الجالية التي يستهدفها وهي هنا الجالية المغربية بالخارج، نعم الجالية المغربية بالخارج، بينما المستغني بهذه الحرب هو ذلك القابع خلف الستار، الذي يحرك المغاربة “المغفلين” كدمى بحباله اللامرئية إلا لمن لديه علم به وبأهدافه الشريرة وبمن يقف وراءه من داعشيين إرهابيين وروافض متطرفين في لندن والرقة، وما أحداث باريس وليون وبروكسل ولندن والدانمارك ببعيدة عنا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بروكسل كانت القاعدة الخلفية لكثير من هذه الهجمات، بروكسل التي سنقولها مرة وألفا: دواعشها لا يلبسون القميص الشرعي ولا يربون اللحى ولا يلبسون النقاب أو البوركا، بل يتسكعون في الحانات ويشربون الخمر ويوزعونه في “نواديهم الثقافية” ويلبسون ربطات العنق وآخر موضات البذل والأحذية الأوروبية، ويقيمون نشاطاتهم بأيد مغربية، نشاطات الكسكس المغربي والقفطان المغربي.
كانت الجالية المغربية جالية دعارة وسطو واتجار بالحشيش، والآن أصبحت جالية إرهابية داعشية!
لكن ما الذي يميزهم عن الجالية المغربية المثقفة ويجعلهم فوقها، الجواب فقط في الإمكانيات اللوجيستيكية التي توفرها لهم دولهم ومنظماتهم والمراكز الثقافية التي يسيطرون بها على الساحة الثقافية ببلجيكا. وهنا أتوجه بالسؤال إلى القائمين والمسؤولين عن الشأن الثقافة المغربية في الخارج: هل أنتم عاجزون حتى عن توفير مركز ثقافي مغربي لجاليتكم بالخارج؟