فتاة .. من وحي الخيال ؟؟!! ــ ذ. سليم عيشان

0
663

مقدمة :
قالت لي :
اُكتب عني هذه المرة … اُكتب عني خاطرة .. قصيدة .. قصة قصيرة .. نص … اُكتب عني :
” فتاة .. من وحي الخيال ” ؟؟؟!!!
فهل تراني سألبي طلبها ؟؟!!
إهداء :
إليها .. ” صديقة ” تلك التي كانت ” فتاة .. من وحي الخيال ” ؟؟!!…
( الكاتب )
————————————–

” فتاة من وحي الخيال ” ؟؟!!

لم أجد مناصّاً من اللجوء أخيراً إلى القطار كوسيلة لنقلي إلى المدينة .. كنت قد قررت فجأة أن أغادر القرية إلى الأبد .. لم يكن القرار مفاجئاً بالمعنى المفهوم .. لكنه كان سريع التنفيذ من جانبي .. رغم أن الفكرة كانت تراودني منذ زمن بعيد .
لقد مللت القرية فعلاً .. سئمت الحياة الروتينية المملة فيها … ولم أعد أرَ لجمال الطبيعة ذلك الجمال المعهود الذي طالما فتن الشعراء والأدباء فتغنوا به ما شاء لهم الغناء .. كرهت الهدوء المتواصل الذي يشبه هدوء الموت وسكون المقابر .
لم يفاجأ الأهل كثيرا بالأمر …ولم يهتموا به .. وفي لحظة ما تراءى لي بأنهم لا يهتمون بي أيضاً – عدا أمي تلك المرأة العجوز المسكينة – فلقد شعر الجميع بأنني أشكل عبئاً لا يستهان به عليهم ، فهم والقرية لا حاجة بهم لرجل خامل وكسول مثلي لا يجيد سوى صنعة الفكر والتفكير والتي لا تسمن ولا تغني من جوع ، فأنا لا أعرف كيف أمسك بالفأس ، وأستثقل حمل المنجل ، وأخشى الاقتراب من المحراث ؟؟!! .
لم أتعود سوى حمل وريقات ؛ قد يكنّ صفراء أو زرقاء أو بيضاء ؛ حسبما يكون في متناول يدي ، إلى جانب قلم رصاص ؛ قد يكون مكسوراً فأضطر إلى استعمال أسناني المتهالكة من أجل إبراز جزء يسير منه كي يسهل عليّ مهمة الكتابة .
دأبي الجلوس إلى الأرض في ظل شجرة هرمة شاخت وتساقطت فروعها بذلة وانكسار ، فمالت نحوي تشتكي أمرها وتبكي حالها بين يديّ .. فلا أجد سوى دموعي أقدمها مواسياً علها تخفف شيئا مما بها ، وشيئاً مما بي . أضع أمامي حجراً صخريّاً متوسط الحجم ؛ لاستعماله كمنضدة . فأضع عليه أوراقي وأدواتي ، وأشمر عن ساعديّ ، وأقدح زناد فكري متهيئاً للعمل .. بينما نظرات ساخرة مستهزئة تصوب نحوي بقسوة من عيون القرويين الذين ما فتئوا يغدون جيئة وذهاباً نحو الحقول والأشجار والمزارع المحيطة بالقرية .
ما إن أخط بقلمي أول الحروف ؛ وبداية الكلمات ؛ حتى تندفع نحوي مجموعة لا بأس بها من الذباب العفيّ ، يتبعها سرب لا يقل عنها ضراوة من الناموس ، ليشاركني الجميع مهمة الكتابة ؟! .. ولا تلبث أن تنضم إلى السيمفونية الغريبة ضحكات القرويين وقهقهاتهم المدويّة الصاخبة الساخرة مما أقوم به من سخافات . وسرعان ما تنهي النغمات الأخيرة للسيمفونية النشاز ؛ نهيق حمار ” يبرطع ” بين الجبال والوديان هنا وهناك بعد أن تحرر من عبودية الإنسان وأفلت من قيوده بطريقة ما .
ألملم أوراقي المتناثرة وأدواتي المبعثرة وأهم بالمغادرة ، فيستوقفني للحظات مشهد الصبايا من فتيات القرية وقد أخذن يتمايلن بشكل سمج وهن يحملن ” روث البهائم ” فوق رؤوسهن ، وقد تطوعت إحداهن بالغناء ، فكان صوتها لنعيق اليوم أقرب .. ولنهيق الحمار أصوب ، فلا يسعني وقد وصلت الأمر إلى مثل هذا الحال ، سوى المبادرة إلى شد الرحال ، والهروب من القرية نحو المدينة حيث الجمال ، حيث الجميلات الحسان .. حيث الحياة وفتنتها .. وجمال الكتابة وسحره .
فلما تيقنت بأن لا أمل لي بالمغادرة بوسيلة نقل سريعة كطائرة مثلا ، حتى ولو كانت شراعية .. أو حتى بدون أجنحة . أو بحافلة ولو كانت من إنتاج ما قبل التاريخ ، لم أجد بدّاً من الاستسلام لقدري ..بأن أكون أحد ركاب القطار .. القطار الأخير الذي يمر من أطراف القرية .. ويتوقف للحظات ليلتقط بعض الركاب البؤساء من أمثالي … بل لعله يلتقط بعضاً من أنفاسه ؟؟!! .
أطلق القطار صافرته إيذاناً بالتحرك بعد أن لاحظ ترددي في الصعود .. لم يكن مجالاً للتردد أكثر ؛ قذفت بنفسي إلى الداخل فتدحرجت بعنف على أرضية القطار .. القطار خالٍ من الركاب أو هو شبه ذلك ، ألقيت بجسدي المنهك على أول مقعد صادفني .. وضعت حقيبتي الضخمة المليئة بالأوراق وأدوات الكتابة إلى جانبي .. احتضنتها بقوة حتى لا يقوم أحد بالاستيلاء عليها لما تحويه من الكنوز ؟؟!! .
سرحت ببصري في مجال الظلمة الحالكة خارج القطار .. راحت الأفكار تطاردني بقوة وسرعة رهيبة .
فها أنا قد أصبحت في منتصف العقد السابع من عمري .. أكتب وأكتب .. لم أجد متسعاً من الوقت لشيء سوى الكتابة . الزواج مثلاً .. رغم أنه شيء رائع .. إلا أنني لم أجربه .. الحب أيضاً .. هو أروع .. ولكني لم أصادفه .. لم ألتق بالحب هذا طوال حياتي .. ولعلني الآن أقصده … لعلني أصادفه هناك … في المدينة الكبيرة .. حيث الجمال والجميلات .. لا بد أن ألتقي به هناك .. لا بد .
برقة ونعومة .. . بسحر وجاذبية … جلست إلى جانبي .. في نفس المقعد ، رغم أن جميع مقاعد القطار شاغرة ؟!.. نظرت نحوها … اصطدم بصري بلوحة فنية في غاية الروعة والجمال .. لاحظت الجميلة نظراتي إليها فابتسمت ابتسامة عذبة ساحرة .. لم تتفوه بحرف .. وبدل كل حرف ودت أن تقوله أتحفتني بابتسامة عذبة خلابة جديدة .
شعرت بنشوة غريبة تدب في أوصالي فتحيلني إلى شاب في العشرين أو أقل قليلاً .. أحسست بالسعادة الطاغية تستولي على كياني ومشاعري ..رحت أغترف النظرات إليها ، أنهل رحيق الابتسام العذب منها .
تشجعت قليلاً .. مددت يدي نحو سبائك الشعر الحريري المتموج المنحدر إلى الوجه الملائكي البديع .. لم تعترض الفتاة ولم تمتعض ؟؟!! .. شعرت بخدر لذيذ يسري في أوصالي فيعيد حياة الشباب إليها من جديد .. فها هو الحب الذي انتظرته طويلاً قد أتى بعد أن حسبت بأن قطار الحب والسعادة قد فاتني .. وها هو الجمال الخلاب بين يديّ .
نظرت نحوها من جديد للمرة المليون .. أتملى من جمالها الأخاذ .. اقتربت منها أكثر .. أكثر .. ملت برأسي نحوها … شعرت بسعادة ونشوة طاغية .. استيقظ في نفسي ظمأ الحب وهاجت لواعجه .. اقتربت من الوجه … من العينين .. من الوجنتين .. من الشفتين .. قبلتها قبلة خلابة .. زادت ابتسامتها .. زادت سعادتي .. ثم .. قبلة أخرى .. ومليون قبلة أخرى .
السعادة تدغدغ حواسي وتستولي على كياني .. شعور رهيب غريب .. لم أشعر بمثله طوال حياتي .. تملكتني الرغبة الجامحة .. اقتربت منها أكثر .. مددت كلتا يديّ نحوها .. طوقتها بعنف .. احتضنتها بقوة … قبلتها بشوق وسعادة ؟.. قبلات كالمطر .. لم تعترض الهيفاء ولم تمتعض .
رحت أطوقها بعنف .. أضغط عليها بقوة .. أمطرها بقبلات محمومة كالطوفان ..
يد غليظة تربت على كتفي بعنف وتهزني بقوة .. تنبهت … نظرت بعيون بلهاء نحو صاحب اليد .. هتف ” الكمساري ” ببلاهة:
– استيقظ يا سيدي .. فلقد وصلنا المدينة.. وهذه هي المحطة الأخيرة .
نظرت إلى المقعد المجاور لي .. وجدتها ما زالت تجلس بجواري .. ويدايّ مطبقتان عليها بقوة .. تطوقانها بعنف .. ابتسمت ابتسامة بلهاء .. سحبت يديّ بهدوء من حولها .. دفعتها عني قليلاً .. أخرجت منديلي … مسحت حبات العرق المنهمرة من وجهي كالمطر .. نهضت من مكاني بتثاقل .. مددت يدي نحوها .. أطبقت عليها بقوة .. حملتها بين يديّ .. شعرت وكأن أوراق العالم أجمع قد تكدست بداخلها ؟؟!!
هبطت من القطار .. ابتعدت عنه .. تلاشيت في ظلمة شوارع المدينة .. بينما صافرة القطار عن بعد تدوي .. تودعني .. تسخر مني ؟؟!! .
… ثمة دموع حارقة كانت تنساب على وجنتيّ .. بينما كنت أشاهد من وسط الضباب الكثيف .. طيف امرأة يتلاشى في ثنايا الضباب الكثيف …
رحت ألملم أشلائي المبعثرة .. وأنا أتمتم بما يشبه الهمس :
” أتراها بالفعل كانت ” فتاة .. من وحي الخيال ” …؟؟؟!!

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here