تعليقا على لقاء أحمد حضراوي بالشاعر كمال بو عجيلة ببرنامج الديوان – د. جميلة الكجك

0
1398

وحدي هنا..
والليل مطرقة تدق القلب معلنة
وقع الحذاء على حجر
حذاء من لو رأت ذبول الجسم حين نأت
كانت أتت..

عند اختناق الروح أحلاما وأوهاما
كانت بكت..

لو بكت خجلت دموعي من سواد رموشها
وخجلت من درر تسيل على شفق
كم مرة أقول للقلب انتظر
ستفوح في زهر الشهوب كلما هطل المطر
وتجيء من كل الدروب وتشق أردية الخطر
وتطل من غبش الغروب
وتهطل في ضوء القمر
كم مرة ما قلت آه أبدا لكنني
في الليل أبحث عن سند يردني ظلي إليه
أقول مرحا بالجسد، وأسير متكئا عليه
كم مرة سألوا لماذا عرفت ما لا يعرف
ورأيت ما لا يدرك
كيف عشقت امرأة من سراب
للضوء عائدة إذا عدنا تراب
دعوني لفكرتي الزرقاء، دعوها
وخذوا الجسد
السبت تأتي إذا وعدت ولكن لم تعد
سأعد أصحابي إذاً وأنساهم جميعا
لأذكرها فقط
الأحد سأحب دوما من أحب
وأخالف العادات أحيانا كأن أمضي إليه
إذا ارتأت وأحيد عنه إذا ابتعد
وحدي هنا والروح تدهش شهوة الجسد الكلام
وأحس وقع حذائها في غرفتي، هل أتت
أم هو القلب منشغلا بها حتى بدت دقاته
وقع الحذاء إذا مشت..

في هذه القصيدة يفيض عمق الشاعر من خلال عباراته، فكأنما وهو يقولها يغرف من عمق ذاته ووجدانا مشاعرا وفكرا وفلسفة. هو صاحب رؤيا تبلورت خلال أكثر من ثلاثين عاما وهو يجدف في دنيا الشعر والثقافة وخبرات الحياة التي أغنت تجربته الفكرية والأدبية معا. ساعدته الظروف ببيئة محبة للأدب عامة وللشعر خاصة من خلال اهتمام والده ومن بعده جده الذي جعل من مجلسه الخاص سوق عكاظ مصغر، ومدرسة اهتم مدرسو اللغة العربية فيها بالشعر والشعراء خاصة أبو القاسم الشابي، لم له من عمق في وجدان الشعب التونسي. حتى إني لأرى مدى حضور موسيقى الشابي ونغماته في هذه القصيدة، ولولا هذا الفكر الناضج هنا عن فكر الشابيّ العشريني لقلت هي امتداد له، ولو أنها بمعنى من المعاني صورة مطورة عنه، ذاك أنني عندما سمعتها شعرت بهذه الصلة العميقة بين الشاعرين في مفرداتهما والحس الموسيقي هنا.
وهنا أيضا نجد مدى تأثره -كما قال- بطرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، فهما شاعران نجد الكيفية ذاتها في الاهتمام بالوصف الحسي. فهذه القصيدة التي قدمت بها لهذا التعليق ذات مستو راق وواضح وصريح ودقيق، إذ أنك وأنت تسمعه ينطق بالكلمات فكأنما أنت بذاتك تسمع وقعها على “طبلة” أذنك أو تكاد تراها بعينيك -الليل مطرقة تدق القلب معلنة وقع الحذاء على حجر-و- لو بكت خجلت دموعي من سواد رموشها، وخجلت من درر تسيل على شفق. وصف للحس بديع سمعي وبصري. ثم وصف للمشاعر العميقة التي يصعب الإتيان بها على حقيقتها وفي زخمها كما يستشعرها الشاعر ذاته. كأنما القارئ هو من يعانيها إذ يقول: “لو أتت عند اختناق الروح أحلاما وأوهاما كانت بكت”. هذه القدرة على الوصف الحسي وحضوره هنا يمثل ما هو مشترك بينه وبين طرفة بن العبد الذي تأثر “بو عجيلة”  به، إذ يقول طرفة بن العبد:
وتبسم عن ألمي كأن منورا
تخلل حر الرمل دعص له ند
سقته إياه الشمس إلا لثاثة
أسف ولم تكدم عليه بإثمد
ووجهه كأن الشمس ألقت رداءها
عليه نقي اللون لم يتخدد
كذلك يبدو تأثره به من حيث شعوره بأهمية الرؤى والفكر وحكمة الحياة وثقافة العصر الذي وجد المبدع نفسه بعيش في خضمه،  فالشاعر “بو عجيلة” و”طرفة بن العبد” عدا عن كونهما أصحاب رؤية معينة وحكمة ما في الحياة فهما قد نشآ يتيمين، مما يجعل هناك قاسما مشتركا ما بينهما، وكلاهما كانت له هواجسه في مفهومي الحياة والموت.
“بو عجيلة” الذي أستشعر تفرد وتميز خبرته الشعرية رغم أنني لم أطلع إلا على قصيدتين له ألقاهما خلال هذا اللقاء، إلا أن حديثه للأديب والإعلامي أحمد حضراوي ينعم عن ذلك وأكثر، فقد استطاع شاعرنا حضراوي في هذا اللقاء القصير نوعا ما أن يستنبط بدلوه الذكي الكثير الكثير من عمق الشاعر والإنسان والمفكر صاحب الرؤى العميقة “لبوعجيلة”، وكأنما أنت تطل على بحر لا حدود له لكنك تمكنت من العوم فيه حد الإشباع. فالشعر عند هذا الرجل الشاعر هو ذاكرة الشعب، تاريخ يكتب بطريق غير سردية بل بإلهام واستشراف حتى للمستقبل من خلال أحداث الماضي والحاضر. الشعر فكر ورؤية للوجود وفلسفة حياة ومشروع وجودي للشاعر ولشعبه، يحمل التفاعلات العميقة في اللاوعي. والقصيدة بحد ذاتها تحمل هذا اللاوعي لتبوح به.
من هنا من خلال تلك الشرارة التي تقدح ما بين الوعي واللاوعي في ذات الشاعر تتولد القصيدة، ويكون الإلهام ويكون التفاعل مع كل مكنونات الذات الإنسانية التي فيه، وكل ما هو مختزن في وجدانه وذهنه، وما كان حاضرا دون أن يكون مفكرا فيه في تلك اللحظة الإبداعية، وهذا تفسير هبوط القصيدة على ذهن الشاعر فجأة وكأنما هو يلقنها من مصدر خارج نفسه سماها البعض شيطان الشعر أو إلهامه أو أيا ما يطلق عليه.
ولكن لماذا كان كل هذا الجدل هو الشعر والشعراء، ولماذا هذا الترحيل بهم لدى مجتمعات، ونبذهم في مجتمعات أخرى حتى لتصور البعض أنهم هم الغاوون! والسبب في ذلك عن “بوعجيلة” أن الشاعر مبدع يثور على السائد بينما جمهور الناس وعلية القوم يجرون حيث تجري المصالح، يعيشون في محاباة للواقع والشاعر الحقيقي يحرك هذا الواقع، ويثير العواصف في وجوه أصحاب المصالح أولئك. يبحث الشاعر دوما عن الأسمى ولا يرتضي بما هو متعارف عليه مستقر جامد، فكل شاعر عظيم له مشروع عظيم لا ولن يكون متوافقا مع مجتمع كل هم أفراده أن يسايروا الأحداث ويتوافقوا معها كيفما كانت، من هنا نجد هذا الخيط الذي يصل ما بين الفلسفة والشعر، بين المفكر والمبدع، بين الفنان الخارج على أعراف وقيم بالية، وبين هؤلاء جميعا الذين يقضون مضاجع التقليديين والماضويين.
هكذا نظر الشاعر “بو عجيلة” إلى الشعر وهكذا مارسه، وإن كانت بداياته مختلفة عما تتطور إليه في قصيدته التي ابتدأت بها. فإن أحب الرجال نساء معينات ولأسباب تخدم غايات لذة ومتع حسية فقط، وإن أحب الشعراء مثلا نسائية “ما” قدموهن بتصورات معينة، فإن هذا الشاعر قد أحب تصورا خاصا به للمرأة هو ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الوعي واللاوعي، هي روحانية شبه خالصة إلا من وقعها على حواسه هو. ولذا هي لن تحضر في حياته الواقعية المادية وإن حضرت في عمق وجدانه.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here