في الصباح الباكر ؛ كان هاتفي النقال يصدر أزيزاً متواصلاً ، وضعته على أذني بتثاقل وآثار النعاس ما زالت تغالبني. على الطرف الآخر كان يأتي صوت صديق قديم لي ليبدد ما تبقى من آثارٍ للنعاس في عينيّ .
بصوته الرخيم المرح كان يفاجئني :
– ” ابن بطوطة ” في الطريق إليكم .. إلى غزة !! .
كلماته الغريبة تلك كانت كفيلة بأن تبدد كل آثار النعاس وكل مخلفات النوم ..
اندفعت الكلمات متلاحقة من فمي :
– من ؟؟!! .. ” ابن بطوطة ” ؟؟!! ..أين ؟؟ .. متى ؟؟ .. كيف ؟؟
أجابني الصوت الرخيم على الطرف الآخر :
– إنه بانتظارك .. على الناحية الأخرى من المعبر .. معبر رفح .. ليدخل غزة ..
قال ذلك ، ثم اقفل الخط .. وغادر .
انتابتني الحيرة .. الدهشة .. التساؤل .. ومليون علامة استفهام تبدأ صغيرة ثم تكبر .. وتكبر .. وتكبر ..
” ابن بطوطة ” ؟؟!! .. هل يفعل ذلك ؟؟ .. كيف ؟؟ .. متى ؟؟ .. وأين ؟؟ ”
لم أجد أي فائدة ترجى من كثرة التساؤلات تلك .. والتي لم أعثر لأي منها على إجابة شافية ..
وعلى ذلك .. وجدت بأن لا بد من البدء بالعمل الفعلي .. ليحل محل الحديث القولي .. ارتديت ملابسي بسرعة كبيرة .. وانطلقت ..
قرعت كل الأبواب .. كل الدوائر .. كل الوزارات .. رحت أبحث عن حل .. من أجل الحصول على تصريح المغادرة .. المغادرة من غزة ..إلى الجانب الآخر .. في الطرف الغربي .. من أجل استقبال ” ابن بطوطة ” الذي بعث من جديد .
في نهاية يوم طويل حافل .. وجدتني أعود إلى منزلي خالي الوفاض ، فلم أتمكن من الحصول على التصريح المطلوب من أي جهة كانت ، ووجدت بأن لا أمل لي بذلك على الإطلاق حتى ولو قضيت الأيام والشهور من أجل تحقيق الهدف .. فالحصول على التصريح مجرد سراب .. مجرد وهم .
ما إن ألقيت بجسدي المنهك إلى أقرب مقعد .. حتى كان أزيز الجهاز النقال ” المحمول ” يعاود مطاردتي من جديد . وبتثاقل أدنيت الجهاز من أذني .. وعلى الطرف الآخر كان الصوت الرخيم المرح ينطلق :
– ” ابن بطوطة ” في الجانب الآخر ما زال ينتظر … لقد حاول دخول المعبر دون جدوى .. لقد قدم الرجل جميع أوراقه الثبوتية .. مؤلفات رحلاته بالكامل .. وكتب التاريخ .. لم يعترفوا بها .. لم يأذنوا له بالدخول .. بحجة أن الأوراق الثبوتية تلك لا تجدي .. فلقد عفا عليها الزمن .. أكل الدهر عليها وشرب ..
أتبع صديقي :
– عليك يا عزيزي أن تتدبر الأمر .. وبسرعة .. عليك أن تستخرج له تصريح دخول إلى غزة .. بالسرعة الممكنة .
كان الرجل يتحدث بكلمات مندفعة من فمه كما تنطلق الرصاصات من المدفع الرشاش ، لم يسمح لي بالمقاطعة .. لم يدع لي فرصة للتوضيح .. لم يأذن لي بمجرد كلمة توضيح .. أغلق الخط من جانبه على الجانب الآخر وغادر .. وكأنه يعتقد بأنه قد أصدر الأوامر وما عليّ سوى الانصياع والتنفيذ بدون أن أجادل أو أن أعترض .
يا لها من حيرة فعلاً .. ها هو صديقي يطلب مني استخراج تصريح دخول إلى غزة لصاحبنا ” ابن بطوطة ” .. هو يعتقد بأنني أحمل عصاً سحرية ؟؟!! .. إنه لا يدري بأنني لا أستطيع الحصول على تصريح الخروج لاستقبال الرجل ” ابن بطوطة ” .. تمهيداً لمرافقته إلى غزة .. لإكمال مشوار رحلاته التي لا تنتهي .
فكرت .. حتى أجهدت فكري ، ولم أصل إلى أي حل .. وأخيراً كنت أنطلق من مكاني بسرعة البرق بعد أن اعتقدت بأنني قد توصلت للحل السحري للمعضلة ..
كنت أنطلق بسرعة الصاروخ العابر للقارات .. ليس المهم أن يكون الصاروخ روسياً أو أمريكياً .. المهم أنه صاروخ .. لأصل إلى أقصى جنوب قطاع غزة .. إلى رفح الشرقية .. رفح الفلسطينية .. حيث يقابلها على الجانب الآخر .. رفح المصرية .
لحظات من المفاوضات السريعة .. كنت بعدها أخرج كل ما في جيوبي .. أدفعها لصاحب ” النفق ” .. ليأذن لي بالمغادرة إلى الطرف الآخر ..من أجل استقبال صاحبنا ” ابن بطوطة ” .
من الطرف الآخر .. الغربي من النفق .. كنت أخرج من فوهة القبر كالأموات .. بعد أن كابدت الخوف .. وعانيت الرهبة .. بينما كنت أسير في النفق الطويل الذي كان يتلوى كثعبان خرافي .. كنت أسير في النفق مطأطئ الرأس .. منحني القامة .. ليس تواضعاً .. بل مكرهاً بسبب انخفاض سطح النفق .
ووصلت إلى الطرف الآخر من الناحية الغربية ، ولم يكن من الصعوبة بمكان أن أعثر على الرجل .. ” ابن بطوطة ” .. وأن أعرفه من بين الآلاف الذين كانوا ينتظرون السماح لهم بدخول غزة بطريقة أو بأخرى .
عرفته من زيه الغريب ، وغطاء رأسه العجيب ، وحذائه المهيب ؟؟!! .. كان الرجل يتأبط ” رزمة ” ضخمة من الأوراق والكتب الصفراء التي تحوي حكايات رحلاته العديدة ، ومواقفه الفريدة .
يبدو أن الرجل قد عرفني وأنا أقترب منه ، فقد رأيت شبح ابتسامة غريبة ترتسم على محياه ، بينما كان يتقدم ليصافحني بيده الخشنة من أثر السنين .. التجوال .. الترحال .. والكتابة بالأقلام الخشبية الغريبة . صافحني بقوة كادت أن تطوح بي .. وضغط على يدي بخشونة كدت أن أصرخ طالباً النجدة .. تمتم وشبح الابتسامة على محياه :
– رجال الأدب والكتابة لهم سمات مشتركة ، فأنا عرفتك من سحنتك الغريبة ؟؟!! وعيونك الزائغة ؟؟!! .. وفكرك المشتت .. ونظراتك التائهة .. وعقلك المجهد .. و ..
لم يلبث أن سحب يده من يدي بقوة ، وقد تلاشت الابتسامة عن محياه .. واكفهر وجهه وهو يدمدم :
– ولكن ما بال يدك طرية هكذا ؟؟!! .. لينة .. ناعمة كالحرير ؟؟!! . فإن عهدي برجال الأدب والكتابة أن تكون أيديهم خشنة مثل يدي هذه ..
حاول الرجل ” ابن بطوطة ” أن يتبع القول المزمجر بالفعل الهادر .. فقد أقفل عائداً من حيث أتى .. لحقت به صارخاً متوسلاً .. متعلقاً بأهداب ثيابه البالية بقوة .. فتمزقت بين يديّ .. وخرجت قطعة من ثوبه بين أصابعي .. رحت أتوسل إليه .. أستحلفه بكل الرسل وبكل الأنبياء وبالكتب السماوية .. وبكتب رحلاته المشهورة .. وبكتب التاريخ التي ذكرت مناقبه .. وسردت عجائب رحلاته ” البطوطية ” .. أقسمت عليه أن يعود .. حاولت أن اشرح له الأمر وكنهه ، أفهمته بأنني رجل مبتدئ في الكتابة .. ومستجد على الأدب ، وسوف تخشوشن يدايّ فيما بعد ..
يبدو أن الرجل قد اقتنع بعض الشيء .. بل لعله رثى لحالي وأشفق عليّ .. فعاد ليرافقني رحلة الدخول إلى جهنم .. أقصد إلى غزة عن طريق قبر طويل .. يتلوى كالأفعى الخرافية ..
حاولت أن أساعد الرجل بأن أحمل عنه بعض الكتب والأوراق ، فطوح يدي بعيداً بضربة قوية من يده الخشنة .. وكادت تلك الضربة أن توصلني إلى الجانب الآخر .. الجانب الشرقي بدون استعمال النفق ؟؟!! وتهاويت إلى الأرض .. كدت أن أقع لولا أن استندت إلى أقرب جذع شجرة آدمية .
لم يسمح لي الرجل ” ابن بطوطة ” بالمساعدة .. أو حتى بمجرد لمس أوراقه .. التي بدت أمام ناظريّ صفراء اللون .. خضراء … زرقاء .. حمراء .. بل وبكل ألوان الطيف . كان الرجل يضمها إلى صدره .. إلى قلبه بقوة غريبة ، يحاول أن يحميها حتى من الهواء .
سرت إلى جانبه .. انطلقنا نحو فوهة النفق .. من الطرف الذي أعرفه .. لأني خرجت منه قبل لحظات .. استوقفني الرجل صاحب النفق ، أفهمته بأنني قد حضرت قبل لحظات .. وكنت قد دفعت الأجر بالكامل لصاحبه في الجانب الآخر ..
قهقه الرجل بضحكات مدوية مجلجلة .. هزئ بي .. سخر منى .. صرخ صاخباً بعد أن كف عن الضحك المتواصل :
– أنت قمت بالدفع هناك .. من أجل الحضور إلى هنا .. وعليك الآن أن تدفع هنا .. لتذهب إلى هناك .. لقد كانت رحلتك من جانب واحد .. وليست برحلة ذهاب وإياب .. وعليك الآن أن تدفع الأجر عنك .. وعن صديقك هذا ..
ولما كنت قد أفرغت جيوبي بالكامل في رحلة الانتقال الأولى .. لم أجد ما أقدمه للرجل .. قدمت له كل الأوراق الثبوتية .. وكل البطاقات التي أحملها .. – وما أكثرها – ؟؟!! .. من بطاقات عمالية ونقابية .. جمعية ورسمية .. أدبية وصحفية .. وأتبعتها بالبطاقة الشخصية وجواز السفر .. أشاح الرجل بوجهه عني بعيداً .. راح يدمدم بحزم وقوة :
– اذهب من هنا .. ودع عنك هذا الهراء .. واحتفظ لنفسك بهذه الأوراق السخيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع .. فأنا أريد نقوداً .. أوراقاً نقدية .. وليس أوراقاً عقيمة مثل أوراقك التافهة هذه ؟؟!!
خلعت الساعة ” السويسرية ” المذهبة من يدي .. ناولتها للرجل .. قلبها بين يديه .. اكتشف ببراعة بأنها ليست سويسرية .. بل هي مقلدة .. واكتشف بأنها ليست مذهبة .. بل هو ذهب ” فالصو ” .. ورغم هذا وذاك .. فلقد دسها في جيبه بامتعاض .. دمدم متبعاً :
– وماذا هناك أيضاً ؟؟!!
ناولته قلم الحبر ” الأمريكي المقلد ” .. تناوله .. راح يتفحصه بازدراء .. بصق في راحة يده .. راح يكتب بعض الحروف والكلمات بشكل بدائي ؟؟ .. دسه في جيبه الداخلي .. صرخ هادراً :
– وماذا أيضاً ؟؟!!
تفوه بتلك العبارة .. ثم اقترب مني وأخذ يتحسس ” الجاكيت ” الذي كنت أرتديه والذي اشتريته حديثاً من سوق ” البالة ” .. خلعته بسرعة … وناولته للرجل .. راح من جديد يدقق النظر في القميص ” الفرنسي المقلد ” .. تفوه بامتعاض :
– لا بأس به ..
خلعته على الفور وناولته للرجل وأتبعته بـ ” الكرافتة ” التي كنت قد اشتريتها من ” أفندي سابق ” قبل عدة سنوات ..
انخفض ببصره إلى أسفل جسدي حيث ” البنطال الإيطالي ” الذي وجدته في ” صرة التموين ” بالأمس القريب ؟؟!! .. رحت أخلعه بسرعة .. ناولته للرجل .. وقبل أن يمد الرجل ببصره إلى ” الفانيلة ” و ” الشورت ” من ماركة ” جل ” المضروبة .. حتى كنت أسحب ” ابن بطوطة ” من يده وأدخل به إلى فوهة النفق .. وذلك قبل أن يجردني الرجل صاحب النفق من ملابسي الداخلية أيضاً ؟؟!! .
ما إن دخلنا النفق .. حتى كان ” ابن بطوطة ” يخرج أوراقه .. ويستل قلمه .. ليبدأ في توثيق ووصف رحلته الجديدة .. ” رحلة داخل النفق ” .. ولكنه ما كاد يمسك بالقلم ليبدأ كتابة أول حرف .. حتى كان الظلام الدامس يخيم على النفق ..
وصلنا الطرف الشرقي من النفق .. فكنت على شفا حفرة من الموت لشدة البرد والرطوبة .. والارتجاف والقشعريرة .. خاصة وأنني كنت شبه عارٍ ..
ما كدنا نخرج من فوهة الثعبان الأسطوري ، حتى كان سائقي السيارات يتقدمون نحونا مهرولين من أجل نقلنا إلى داخل غزة ، وما إن وقع بصرهم علينا .. وخاصة على زيّ ” ابن بطوطة ” الغريب .. وأنا شبه العاريٍ ، حتى كانوا يسارعون بالفرار والهروب من المكان وقد اعتقدوا بأن الشياطين قد بدأت بالخروج من الأنفاق ؟؟!! .
أحد السائقين .. ( رجل مسن جاوز السبعين من العمر ) تجرأ على الاقتراب منا .. لاحظت بأنه يحرك لسانه وشفتيه بالبسملة والحوقلة والعذبلة .. وبعض الأدعية التي تقي من الشياطين .. لم يلبث الرجل أن تشجع قليلاً .. تمتم بصوت متحشرج مرتجف :
– إلى أين يا سادتي ؟؟!!
تمتمت بصوت مرتجف لشدة البرد والتشنج :
– إلى غزة .. إلى غزة يا عزيزي .. بإذن الله ..
هدأ الرجل قليلاً .. سكن .. كف عن الأدعية والبسملة والحوقلة .. خاصة وأنه رأى من أمامه يتكلم بلغة البشر ؟؟!! .. واطمأن أكثر عندما ذكرت اسم الله .. وهو الذي كان يعتقد بأننا شياطين من الجن خرجت من القمقم ؟؟!!..
انتقل إلى الجانب الآخر من الحديث .. طالب بأجرة مرتفعة جداً .. واشترط أن يكون الدفع مقدماً .. وأنا الذي لم أعد أمتلك شيئاً .. تنبهت إلى ” خاتم الزواج ” الذهبي القديم في بنصر يدي اليسرى .. خلعته من إصبعي بقوة وصعوبة .. قدمته للسائق .. راح يقلبه بين يديه .. في النهاية قبله على مضض .. دسه في إصبعه .. سمح لنا بركوب السيارة .. جلس خلف المقود .. عاد للبسملة والحوقلة مرة أخرى .. وانطلق بنا إلى غزة ..
أكثر ما أسعدني في تلك السيارة التي كما يبدو بأنها كانت في عمر سائقها .. أنها كانت بلا نوافذ زجاجية على الإطلاق .. مما استدعى السائق أن يضع بعضاً من قطع القماش .. الخشب .. والنايلون السميك ؟؟!! مما أدى إلى حجب الرؤيا عن مشاهدة الطريق .. وكان في هذا فائدة مزدوجة .. فمن ناحية حتى لا يراني المارة والسائقين الآخرين وأنا شبه عارٍ .. ومن الناحية الأخرى حتى لا يرى ” ابن بطوطة ” آثار الحرب المدمرة التي كانت على غزة ..
راح ” ابن بطوطة ” يشرح لي ما دونه في مذكراته من مشاهد شيقة وطريفة أثناء زيارته للمغرب العربي في ضيافة صديق .. وما سجله من مشاهدات عظيمة أثناء زيارته للأردن في ضيافة صديق آخر .. استمر حديث ” ابن بطوطة ” في وصف الرحلات السعيدة تلك .. إلى أن وصلنا ..
أول ما فكرت فيه أن أرتدي ثياباً لستر جسدي ؟؟ وأن أقدم وجبة ساخنة لصاحبنا ” ابن بطوطة ” .. ولكن الرجل لم يسمح لي سوى بالأولى .. فلقد رفض بشدة تناول أي طعام .. فهو لم يأت للمأكل والمشرب .. وأمرني بالخروج حالاً برفقته إلى حيث المعالم المميزة في غزة .
قررت أن نبدأ رحلتنا من الشمال .. شمال قطاع غزة .. فما كان من الرجل إلا أن أخرج أوراقه وأقلامه .. واستعد للكتابة ..
هاله مشهد الدمار الرهيب .. الذي أتى على كل شيء .. التفت نحوي مستفسراً عن زمن ذلك الزلزال المخيف الذي أتى على المكان برمته .. أخبرته بأنه زلزال من يدعون بأنهم بشر .. وليس بزلزال الطبيعة .. وقد حدث قبل أشهر قليلة فقط .
أغلق الرجل دفاتره وأوراقه .. وخبأ أقلامه .. هتف بصوت متحشرج :
– لنرى شيئاً آخر ..
كان موعد الصلاة قد أزف .. انتقلنا إلى مسجد قريب .. يشبه ” السقيفة ” أو العريشة ” .. أقيم على أنقاض مسجد كبير قصفه العدو بعنجهية .. علق الرجل على الأمر ونحن ندخل المسجد لتأدية فريضة الصلاة :
– لقد قرأت عن مثل هذا المسجد في كتب التاريخ القديمة ؟؟!!
وقفنا في الصف الطويل .. تمهيداً لتأدية الصلاة جماعة .. وقبل أن يبدأ الإمام بتكبيرة الإحرام .. كان ” ابن بطوطة ” يلتفت نحوي هامساً :
– لماذا أرى كل المصلين هنا يجلسون على المقاعد ؟؟!!
قبل أن أرد عليه .. كان الإمام يرفع صوته مدوياً بتكبيرة الإحرام ..
بعد أن انتهينا من الصلاة .. حاول ” ابن بطوطة ” أن يصافح المصلين .. فلم يتمكن من ذلك ؟؟!! خرجنا نتلمس الطريق .. فلقد كان ” ابن بطوطة ” يجيب بنفسه عن السؤال الذي كان قد طرحه قبل الصلاة .. فلقد تأكد تماماً بأن من فقد الأطراف السفلية لا يستطيع الوقوف في الصف .. ومن فقد الأطراف العلوية لا يستطيع المصافحة ؟؟!! .
خرجنا إلى الطريق الطويل .. بدا الرجل منهاراً .. لم يستطع أن يفتح كتبه وأوراقه .. ولم يستطع أن يخرج قلمه .. ولم يستطع أن يكتب حرفاً واحداً ..
كان الطريق صعباً للغاية .. سيئاً للغاية .. خالياً من المارة .. وعلى جانبيه رص العديد من …
هتف الرجل متأثراً :
– لقد عرفت الآن أين أهل المكان .. إنهم يرقدون في هذه القبور العديدة المتراصة ؟؟!!
اقتربت منه فتاة .. صبية .. شابة .. يبدو أنها عرفته .. يبدو أنها قرأت عنه في كتب التاريخ .. هتفت به وهي تجلس إلى جانب الطريق :
– أطمع في توقيعك الكريم سيدي ” ابن بطوطة ” .
التفت الرجل نحوها .. أخرج قلمه .. اقترب منها .. سألها أين تريد أن يضع لها توقيعه ؟؟!! .
قالت له بأنها لم تعد تملك أوراقا .. فلقد أحرقتها نيران ” نيرون ” ,, وأغرقها ” هولاكو ” في بحر الدماء ..
.. قالت له الفتاة :
– فلتضع توقيعك الكريم على يدي يا سيدي ..
رفع أكمام الثوب عن اليد ليوقع عليها .. وجدها مبتورة وحتى الكتف ..
قالت له الفتاة :
– على يدي الأخرى يا سيدي ..
رفع أكمام الثوب عن اليد الأخرى .. وجدها مبتورة ..
قالت له : على ساقي ..
رفع الرداء ليوقع على الساق .. وجدها مبتورة حتى الحوض ..
قالت له الفتاة :
– على الساق الأخرى ..
رفع الرداء من جديد عن الساق الأخرى .. وجدها مبتورة حتى الحوض أيضاً ..
حسرت الثياب عن صدرها .. كان الصدر بلا أثداء .. ومليون شهادة فخر وعز مرسومة عليه .. قالت له الفتاة :
– على صدري .. هنا .. على قلبي .. فالقلب يا سيدي ما زال سليماً .. ما زال ينبض .
اقترب ” ابن بطوطة ” من الفتاة .. وقع لها بالبنط العريض ..
” عاشت فلسطين .. عاش الأقصى .. عاشت غزة ” ..
فر الرجل لا يلوي على شيء .. أسرعت باللحاق به صارخاً :
– سيدي .. انتظر … انتظر … لنكمل الرحلة .
لم يلتفت لي .. لم يأبه بصراخي .. ظل يركض .. ويركض .. أسرعت الخطي .. أركض في إثره .. وهو يركض .
وصل الرجل أقصى الجنوب .. وقف أمام باب النفق .. وصلت لاهثاً حيث يقف .. أنفاسي متقطعة .. العرق يتصبب من وجهي وجسدي بغزارة ..
اقتربت من الرجل .. حاولت أن أثنيه عن عزمه .. أن أعيده إلى غزة ليكمل الرحلة .. رفض الرجل بشدة .. تشبث بموقفه .. اندفع نحو مدخل النفق ..
اقتربنا من باب النفق .. حاولنا الدخول لأرافق الرجل إلى الطرف الغربي .. اعترض طريقنا الرجل صاحب النفق .. أفهمته بأنني دفعت له في المرة السابقة .. ضحك .. هزأ .. سخر .. قهقه .. اندفع نحوي .. طردني من المكان بقسوة .. .. ودفع صاحبي ” ابن بطوطة ” في صدره .. تناثرت الكتب والأوراق على الأرض .. انحنى ” ابن بطوطة ” على الأرض .. انحنيت إلى جانبه أحاول مساعدته في جمع الأوراق .. نهرني بشدة .. زجرني .. لم يسمح لي بالمساعدة .. أو الاقتراب من أوراقه .. أو مجرد لمسها .. .
انتحيت بصاحب النفق جانباً .. همست له بكلمات بصوت منخفض .. نظر الرجل نحوي طويلاً .. تفحصني كثيراً .. سمح لـ ” ابن بطوطة ” بدخول النفق .. لينتقل إلى الجانب الآخر .. بقيت إلى جانب الرجل صاحب النفق .. تناولت معولاً كبيراً .. وبدأت في العمل في حفر نفق جديد .. لحساب الرجل .. فلقد بعته نفسي لعدة شهور .. مقابل السماح لـ ” ابن بطوطة ” بدخول النفق.
الجهاز النقال يصدر أزيزاً متواصلاً .. أدني الجهاز من أذني .. صديقي على الطرف الآخر من الخط .. يسألني عن الرجل ” ابن بطوطة ” .. أخبره بأن الرجل في الطريق إلى الجانب الآخر .. أطمئنه إلى أن الرجل بخير ..
عدة دقائق .. كان القصف المدوي لطائرات العدو يتوالى على المكان بوحشية .. فر الجميع من المكان بسرعة ..
ألسنة ضخمة من أعمدة النيران بكل الألوان تعانق السماء .. .. صرخ الرجل صاحب النفق :
– لقد خرب بيتي .. لقد خسرت كل شيء .. ضربوا نفقي .. .
أدركت حجم الكارثة .. فالرجل .. ” ابن بطوطة ” داخل النفق ..
اندفعت بقوة غريبة .. بعصبية .. بجنون .. نحو مدخل النفق .. حملت المعول الضخم من جديد .. رحت أزيل الركام .. التراب .. ” جرافات ” ضخمة وصلت إلى المكان .. راحت تحاول إخراج رجال النفق .. رحت أساعدهم بجهدي المتواضع .. أخرجوا بعض الجثث .. وأخيراً .. كانت جثة صاحبي ” ابن بطوطة ” تظهر من تحت الركام …
الجهاز النقال يصدر أزيزاً متواصلاً من جديد .. بشكل هستيري مخيف ..
ألقيت المعول من يدي .. أسرعت نحو جثته .. أحتضنها .. رحت أبكي بحرقة .. صرخت بكل ما تبقى بي من قوة :
– لا .. لا .. إلا ” ابن بطوطة ” .. لا ..
كان الرجل يقبض بشدة على كتبه .. على أوراقه .. على أقلامه .. ويضمها قوة إلى صدره .. إلى قلبه .. حتى وهو ميت .. حتى وهو جسد لا ينبض .
خلصت الأوراق .. والكتب من بين يديه بقوة .. بصعوبة ..
فتحت الكتب .. كل الكتب .. فتحت الأوراق .. كل الأوراق ..
وفتحت فاه الدهشة كالأبله .. وأنا أنظر إليها .. أدقق النظر فيها ..
كانت الأوراق كلها .. الكتب كلها ..
بصفحات .. حمراء .. بلون الدم ؟؟؟؟!!!!