قال (تعالى): “وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)” (سورة التين).
اختلف المفسرون قديما وحديثا حول المقسَم به في الآية الأولى من سورة التين على رأين مشهورين:
الأول: هما الفاكهتان المعروفتان.
وأنقل من تفسير القرطبي: ” قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت.”
الثاني: هما موقعان.
ثم اختلف أصحاب الرأي الثاني حول الموقعين المقصودين على أقوال أشهرها:
(1) أن المقصود فلسطين (بتقدير محذوف: منابت)، حيث إن فلسطين من منابت التين والزيتون المشهورة.
(2) أن المقصود دمشق (منابت التين) والقدس (منابت الزيتون).
(3) أن المقصود جبل التين وجبل الزيتون (بتقدير محذوف: جبل).
حجة أصحاب الرأي الأول عدم وجود ما يدعو إلى افتراض محذوف (منابت أو جبل)، فيؤخذ القسم على ظاهره دون تقدير أي محذوف ويستدلون على ذلك بأهمية هاتين الفاكهتين.
ملاحظتان:
– هناك من افترض أن المحذوف “رب” لينفي احتمالية القسم بمخلوق، ولا داعي لهذا فللخالق أن يقسم بنفسه وأن يقسم بأي من مخلوقات، وقد ورد النوعان في القرآن الكريم.
– تروج على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات حول بحوث يزعمون أن علماء يابانيين أثبتوا فيها وجود مادة مشتركة بين التين والزيتون بنسبة 1 : 7 (وهي نفس نسبة ورودهما في القرآن الكريم)؛ لم أعثر على أصل لهذه المعلومة، وإعجاز القرآن لا يحتاج لادعاءات كهذه!
أما حجة أصحاب الرأي الثاني فهي أن الآيتين (2) و (3) تتحدثان عن موقعين: طور سينين طور سيناء؛ جبل موسى) الذي نزلت فيه التوراة، و البلد الأمين = مكة الذي نزل فيه القرآن الكريم) فمن المناسب أن يكون ما أقسم الله (تعالى) به فلسطين التي كانت موقع نزول الإنجيل.
شخصيا أميل إلى الرأي الثاني وبالتحديد إلى قول من قال إن المقسم بهما جبل التين وجبل الزيتون، فالحديث عن مجموعة جبال ومن المعلوم أن أول نزول القرآن الكريم كان في غار حراء وهو غار في جبل.
ملاحظة: القول بالرأي الثاني لا يلغي الأول تماما، بل تبقى ظلاله قائمة، فلا شك أن لحذف “جبل” (أو منابت) حكمة وبالنسبة لي فالحكمة واضحة فالتين والزيتون شجرتان مباركتان والحذف يلقي بظلال التعظيم عليهما.
• لماذا ابتعد كثيرون عن القول إنهما جبلان؟
يبدو أن كثيرا من العلماء ابتعدوا عن هذا الرأي، بل وجنحوا إلى القول إن المقصود الفاكهتان المعروفتان تأثراً برأي شيخ المفسرين الإمام الطبري الذي قال بالنص: “والصواب من القول في ذلك عندنا: قول من قال: التين: هو التين الذي يُؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تينا، ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالتين والزيتون. والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنـزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه، لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.”
ومن المعلوم أن كثيرا من المفسرين نقلوا عمن سبقهم دون التثبت من صحة ما ينقلونه.
ملاحظة: قول الطبري ” ولا يُعرف جبل يسمى تينا، ولا جبل يقال له زيتون” غير صحيح بالمرة، فجبل الزيتون في القدس الشريف مشهور، وهناك عدة جبال في الشام وفي جزيرة العرب تعرف بجبل التين!
• الشعر ديوان العرب ومعجم بلدانهم!
لفت انتباهي إلى خطأ الإمام الطبري هذا عندما قرأت قول النابغة الذبياني (من قصيدة مطلعها: “بانت سعاد”):
وَهَبّتِ الرّيحُ مِنْ تِلقاءِ ذي أُرُلٍ *** تُزْجي مع اللّيلِ من صُرّادِها صِرَمَا
صُهبَ الظّلالِ أتَينَ التّينَ عن عُرُضٍ *** يُزْجينُ غَيْماً قليلاً ماؤهُ شَبِمَا
وفي شرح هذا البيت وجدت أن التين اسم جبل. وقد ورد ذكر (جبل التين) أو (جبل التينَين) في أكثر من قصيدة:
– قال الحذامي:
ترعى إلى جد لها مكين *** أكناف خو فبراق التين
– قال الباهلي:
إذاً لجعلت التينَ بيني وبينكم *** وهضبة زيد الخيل فيها المصانعُ
– قال شاعر من بني أسد:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بأسفل ذات الطلح ممنونة رهبى؟
وهل قابل هاذاكم التين قد بدا *** كأن ذرا أعلامه عممت عصبا
ولا شارب من ماء زلفة شربة *** على العل مني، أو مجير بها ركبا
– قال أحدهم:
أرقني الليلة برقٌ لامعُ *** من دونه التينانِ والربائعُ
– قال العوام بن عبد الرحمن:
أحقا ذرا التينين أن لست رائيا *** فلا لكما إلا لعيني ساكبُ
كما أن جبل التين قد ذكر كثيرا في الشعر النبطي الحديث.
• أين يقع جبل التين الذي ورد في هذه الأشعار؟
هناك عدة أقوال، منها أن جبل التين هو:
– جبل قاسيون: فمن أسمائه جبل التين، وهو الجبل الذي عناه النابغة.
– جبل التين في إمارة خرمة السعودية.
– جبل التين (أو جبل التينين) في منطقة القصيم السعودية، وهو جبل أصله واحد له قمتان فيبدو من بعيد كجبلين.
ملاحظة: يقول بعضهم إن (التين) في بيت النابغة ليس في الشام بل في السعودية باعتبار أن النابغة من بني غطفان وأحد الجبال التي تعرف بجبل التين في تلك المنطقة، وهذا غير صحيح بالضرورة فما عناه النابغة أن ريح الشمال مرت على جبل التين (جبل قاسيون) فاكتسبت منه برودة.
• أين يقع (التين) الذي أقسم الله به في سورة التين؟
إذا اتفقنا على أن التين اسم مكان (وربما جبل)، فلا بد أن يكون مكانا ارتبط بأحد الأنبياء شأنه شأن بقية الأماكن التي أقسم الله (تعالى) به في هذه السورة التي سميت (سورة التين) تعظيما له. وبهذا أستبعد تماما أن يكون أحد جبال الجزيرة العربية ما لم يثبت ارتباط أحد هذه الجبال بأحد الأنبياء.
بحسب ما تقدم يمكن أن نفسر (حتى هذه النقطة):
جبل التين: جبل قاسيون/دمشق؛ ويرتبط في بعض الكتب حول تاريخ دمشق بيحيى (عليه الصلاة والسلام)
جبل الزيتون: القدس؛ ويرتبط بعيسى (عليه الصلاة والسلام)
طور سينين = طور سيناء؛ ويرتبط بموسى (عليه الصلاة والسلام)
البلد الأمين = مكة؛ ويرتبط بمحمد (عليه الصلاة والسلام)
ولكن هناك ملاحظتان:
– الروايات التي تزعم أن يحيى (عليه السلام) عاش مع أمه أربعين عاما في (مغارة الدم) على جبل قاسيون غير مؤكدة.
– ليس يحيى (عليه السلام) من أولي العزم من الرسل ولا من أصحاب الكتب السماوية بخلاف البقية.
– لم يتبع ترتيب الآيات الترتيب الزمني للأنبياء.
قد يقول قائل إن الترتيب غير مهم، أو إنه قد تكون لهذا الترتيب حكمة نجهلها. لكن، إلى أن يتبين لي ما لا أعلمه فلا مناص من إعادة التفكير في صحة التفسير أعلاه انطلاقا من قناعة راسخة “لا يوجد شيء عبثي أو غير مقصود في القرآن الكريم”.
أظهر لي مزيد من البحث رواية عن ابن عباس (رضي الله عنهما) مفادها أن التين هو مسجد نوح (عليه السلام) بناه على الجودي حيث رست سفينته (تفسير القرطبي).
هذا طرف خيط مهم جدا. فهو يعطينا بداية ونهاية منطقيتين: نوح: الأب الثاني للبشرية، و محمد: خاتم الأنبياء والمرسلين (عليهم الصلاة والسلام).
ولكن الإشكال الجوهري ما زال قائما، فما زال الترتيب في الوسط عكس التسلسل الزمني!
يقودنا هذا إلى تساؤل جديد، وهذه طبيعة البحث العلمي حيث تطرح كثير من الإجابات تساؤلات جديدة.
* أين يقع جبل الزيتون؟
كما ارتبط الزيتون بفلسطين والقدس، فقد ارتبط أيضا بطور سيناء! قال (تعالى): ” وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ” (المؤمنون: 20). يكاد يكون هناك إجماع بين المفسرين على أن المقصود شجرة الزيتون.
يبقى هناك إشكال واحد.
ماذا عن “طور سينين؟! هذا الموقع الوحيد المتبقي ليرتبط بعيسى (عليه السلام)!
لندقق في الآية (2): “وَطُورِ سِينِينَ”.
قال معظم المفسرين إن “طور سينين” هو نفسه “طور سيناء.” ولكن لماذا لم يقل الله (تعالى): “وَطُورِ سَيْنَاءَ”؟ كما في سورة (المؤمنون)؟
ملاحظة: اتفقت القراءات العشر المتواترة على قراءتها (سينين) رغم أني وقفت على أثر يزعم قراءة عمر بن الخطاب لها “وطورِ سَيْناءَ” (تفسير القرطبي) ولكنها غير متواترة فتعتبر شاذة ولا يؤخذ بها.
لنحلل الآية لغويا:
الطّور: الجبل (بلغة النبَط والكنعانيين)
سينين: فيها عدة أقوال، منها:
– صحراء بين فلسطين ومصر فيها ثلاث لغات” سين وسينين وسيناء.
– شجر (معرَّبة عن النبطية أو بالحبشية)؛ واحدتها سينة؛ أو سينينة (مختار الصحاح؛ وهو قول الأخفش)، أو السِينِيِنِيَّةُ (القاموس المحيط).
– مبارك (بالسريانية). قال قتادة: سينين هو المبارك الحسن (تفسير القرطبي).
– كل جبل فيه شجر مثمر؛ وهو قول قتادة والكلبي (تفسير القرطبي).
ملاحظة: لا يصح اعتبار (سينينَ) صفة للطور لأن (طورِ) مضافة (لاحظ أنها غير منونة)؛ لو كانت صف لكانت (وطورٍ سينين)، وبهذا يكون “سينين” اسما لمكان بعينه أو صفة لمحذوف تقديره (شجرٍ) لا للطور.
بما أن كلمات القرآن الكريم لا تأتي جزافا فإن المعنى الأقرب للمنطق هو أن الله (تعالى) أقسم “بجبلِ شجرٍ (مثمرٍ) مباركٍ؛ جميع هذه الصفات تنطبق على (جبل الزيتون) في القدس الشريف، ويؤكد هذا أن الاسم القديم لجبل الزيتون هو “طور زيتا” (بالعبرية: הר הזיתים؛ هار هزَيْتيم. ينسجم هذا أيضا مع الترتيب الزمني المنطقي حيث يرتبط هذا الجبل بيسوع المسيح (عليه السلام) الذي صعد من هذا الجبل إلى السماء (بحسب الكتب المسيحية).
ملاحظة: يسمى جبل الزيتون أيضا جبل الطور، ويحتضن “ضاحية الطور” المقدسية
بهذا تكتمل الصورة في ذهني:
التين: مسجد على جبل الجودي، بحسب رواية عن ابن عباس (رضي الله عنهما).
الزيتون: إشارة إلى طور سيناء.
طور سينين: جبل الطور في القدس.
البلد الأمين: مكة المكرمة (بإجماع المفسرين).
وبهذا يستقيم التسلسل الزمني: نوح – موسى – عيسى – محمد (عليهم الصلاة والسلام).
ملاحظة: لا يوجد أي إثبات موثوق به على مكان دفن نوح (عليه السلام)، وهناك عدة أماكن في تركيا ولبنان وفلسطين قد يكون مدفونا فيها، ومنها بلدتي دورا/الخليل حيث يوجد “مقام النبي نوح” يقال إنه يضم قبر الأب الثاني للبشرية.
والله ورسوله أدرى وأعلم.