شاعر مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية:
هي الورود لا تنفتح
إلا من ود
وداعة الهمس
وحنان الندى، فمن قال كاذبا
انتظرها؟!
هذا هو المقطع الأخير في قصيدة “شاعرية الانتظار”، وهو لب القصيدة، جوهرها الذي إن قشرناها وصلنا إليه وأدركنا أنه أس علاقة آدم بحوائه لتحتويه، لتكون وطنه الحقيقي في أي وطن أقام. العلاقة التي إن فقدت هذا اللب فرغت أصبحت جوفاء وفقد هو حقيقته وكنه آدميته، فأية آدمية تتحقق له إذ ذاك. (وداعة الهمس) يا آدم، تلك الوداعة التي يتصورها معظم الرجال خنوثة (وحنان الندى) عبارتان هما مفتاحي قلب الأنثى لآدمها، خلاصة الحب إذ يكون عشقا، هياما يحول جبروت الرجل وعنفوانه إلى رقة تجعل صوته وهو يحادثها همسا، ومسه لها ملاطفة وكأن لمساته تنساب كثوب حرير فوق مفاتنها، تعبير يفسر لنا عبارة الشاعر إذ يقول: وحنان الندى – ولا حنان يضاهي حنان الندى على وردة إلا حنان الحرير على جسد أنثى. وكذا يريد الشاعر أن تكون مداعبته لأنثاه، أو بالأحرى مداعبة آدم لحوائه. وداعة الهمس وحنان الندى وعاشقين. منتهى الجمال في التصوير، في انتقاء الألفاظ، في الصياغة، ونصيحة لك يا آدم لا تثمن إلا بتلك المتعة التي ستفوز بها في لحظة تخلد في خلايا دماغك إلى الأبد.
هي وردة، صدقت شاعرنا. المرأة لرقتها إن لم تعامل هكذا ذبلت، ماتت مشاعرها، قبحت طلتها وتحولت إلى كائن آخر ينفر منه الرجل وهو ذاته السبب. عواطفها، مشاعرها، عطاؤها، إن هي إلا حصاد أسلوب تعاملك معها. وبعد كل ذلك يشكو الرجال ولا يدركون ما قد فعلوه بنسائهم ومن ثم بأنفسهم إذ يحولون الحياة إلى جحيم لا يطاق.
كنت قد بدأت بآخر مقطع من قصيدة -شاعرية الانتظار- للشاعر المغربي “محمد الشرقاوي” لأنها التوصيف الصحيح والسليم والدقيق للمرأة. فآدم لن ينال شهد حوائه إن لم ينظر إليها مثل هذه النظرة، فهي الورود، نعم هي ليست وردة واحدة ولا نوعا واحدا، هي في ذهن الرجل الحقيقي بستان ورد، هي الورود. وكل الشهد الذي يتمناه فيها لن يناله إلا إذا أحسن انتظارها وعرف كيف يستميلها لمنحه نفسها كاملة غير منقوصة. من يعشق الورد ويعرف كيف يتعامل معه مؤكد سيعرف كيف يعامل من أحب.
ولنبدأ مع الشاعر خطوة خطوة، وصولا إلى قلب وعقل بل كل حبيبته. كيف يضبط نفسه، كيف يبدأ، وكيف يمضي حتى يصل إلى قرص العسل. يقول الشاعر في مطلع القصيدة:
بين حرقة الشوق ونشوة الانتظار،
تمهل في الحديث إليها
وافتح نوافذ الإصغاء مشرعة،
وانتظرها..
دع نسائم المساء تزيل عنها
متاعب العمر وحمولة القلق،
لتنتعش أحلام الليالي الضائعات،
وانتظرها..
إنه فن التعامل مع هذا الكيان الرقيق الحساس رغم كل شوقك لاحتوائها انتظر، فانتظارك يمنحك متعة أخرى فوق تلك المتع الحسية، هي متعة انتظار المتعة، وهذه لا تقدر بمتع الدنيا كلها لأنها تزيد لحظات النشوة تألقا فيك، وتضيء الذات بنور يبهج الحبيب إذ يبصرك، وتجعل منك مخلوقا رقيقا محببا إليها ربما أكثر من نفسها لأنك عند ذاك أنت تتمة ذاتها كما أنها تتمة ذاتك. دعها تتحدث إليك واستمع، وهذه متعة أخرى.
ولكن من ينتظر يا ترى! ولم يكون الإصغاء وتباريح الوجد تفعل في النفس فعلها، ولم الإصغاء لأحاديث الشفاه وللقلب موسيقاه وهي أطرب للأرواح وأشهى إذ تعزف سيمفونية واحدة بين جسدين! لم الإصغاء والشوق يلهب الحبيبين بسوطه يحث الحواس كلها على الاقتراب، على الاقتران حد الذوبان، لكن الحكيم له حكمته إذ يؤنس محبوبته، فإن أنست به أعطته من ذاتها ما لم تعط أحدا من العالمين. تشوقت إليه كما يتشوق الرضيع لثدي أمه. والسؤال هنا كيف يمكن لآدم أن يجعل حواءه تأنس به، وهل يأنس من كان متعبا، قلقا، يهجس بما قد يحدث أو لا يحدث، يفكر بما ضاع من ليالي العمر هباء.
هو منهج في الحب إذا لا يقدم عليه إلا محب عاقل يعرف من حوائه مالا تعرفه حتى هي عن ذاتها فيتقرب إليها لتذوب بين يده حبا. يعرف كيف يستميلها فتميل إليه بكلها.
تحدثنا عن سر أسرار العلاقة بين آدم وحوائه – وداعة الهمس وحنان الندى -اللذان فطن إليهما الشاعر الحصيف، بل آدم الشاعري، الإنسان المحب بحق لحبيبته.
الأنس به بداية البدايات في الحب، اطمئنان المرأة إلى الرجل حديثه الذي يستميلها نحوه، فيميل القلب جهته هو أينما كان.
وانتظار منه لا يمل لأنه بحد ذاته متعة.
دعها تخبر صدیقتها أنها
ستطفئ هاتفها إلى حین
وتعیده إلى محفظتها الیدویة،
وانتظرها
انتظرها حتى تشعر بأنها لا تريد من الوجود غير التواجد معك، قد تفتحت وردة قلبها لاستقبالك، لحوار أناملك على أوتار الجسد، وأنها لن تقاوم عطشها إليك أكثر، وأنها أصبحت هي لك الجنة لتجوس أرضها، ستخجل أن تخبرك مباشرة لكنها ستعرف كيف تشعرك بشوقها إليك بطريقتها، عندما تنقطع عن العالم، عن صديقتها، ولا تنقطع المرأة عن صديقتها إلا لأمر يخصها وحدها دون العالمين. فهل هذا يكفي يا ترى ليعلم آدم بأن حواءه قد خلصت له؟
صُبَّ ثانیة في كأسها
ما تعتق من شاي فوّاح
بنعناعها الأخضر، وافتح لها
علبة الشكولاتة السویسریة،
وانتظرها…
ويجيبنا الشاعر أن لا فهناك المزيد والمزيد من الوقت والأفعال حتى يبعث الأنس في نفسها أكثر، تتشربه خلاياها من خلال أشياء اعتادت عليها حتى أصبحت جزءا من حياتها أدمنتها ليكون هو كذلك.
لا تنس أن لها ذوقا عفیفا
ألا تنسى أن لها ذوقا عفیفا
في أناقتها وتناسق ألوانها
وعذوبة ضحكتها،
وانتظرها…
ثم انتظرها حتى تأخذ تمام زينتها لتكون على طبيعتها وفي أوج تألقها، في أبهى زينتها الطبيعية الراقية الرائقة. وانتظر حتى تطلق ضحكتها التي تخبرك من خلالها أنها الآن قد هيئت لك.
دع عتمة اللیل تتداخل
في ظلال الشموع
فالبوح لا یأتي في
زحمة الأضواء العاتیة،
وانتظرها..
ثم اخلق الجو الرومانسي المناسب للحب والبوح والهمس، ذاك الرقيق من السلوك الذي لا يناسبه إلا رقة الشموع في الظلام فتتهادى المشاعر بينها رقراقة تتراقص شوقا للتلاق.
تأمّل البحرَ المتلاطمَ في عینيها
ولا تعلّق على احمرار الوجنتین
أو تردّد الشفتین وارتباك الیدین،
وانتظرها..
انظر في عينيها ستجد بحرك الذي ستغوص فيه واترك ما عداه حتى لا تفسد أجمل اللحظات بتنبيهها إلى ارتباكها فترتبك أكثر.
اقرأ في بسمتها أحلام طفلة
لم تكبر عن أحلامها
وعن مداعبة الطفل المشاغب،
وانتظرها..
واسبر غورها من خلال بسمتها، وادخله فهناك حقيقتها الكامنة تنتظرك لتستخرجها حية، فهي الآن طفلتك المشاغبة التي تتشوق لمداعبتك لها، هي وأحلام طفولتها كانت في انتظارك فحققها لها.
لا تجاهد نفسك بسرد قصص الأنا
أو ادّعاء ملاحم أو بطولات رجولیة،
بل كن فقط أنت كما تراك أنت،
وانتظرها..
واظهر لها حقيقتك الحقة كما أنت ولا تدعي شيئا، فحقيقتك الحقة هي ما يحث لها بين يديك وما تمنحه من ذاتك لها عطاء دون من أو أذى.
ضع باقة الورد وتریّث قلیلا
حتى تفوح عبقا تفتر
الأجواء والأنفاس معا،
وانتظرها..
ولتكن بداية الدفء عطر الورد يجمعكما ثم كن لها. بهذا أسس لنا الشاعر الشرقاوي منهجا واقعيا ممكن التطبيق رغم أنه مغرق في الرومانسية والحب. ولا يدعين رجل أن ذلك صعب أو مستحيل. فمن أراد شهد العسل جناه.
ولا ننسى أن ننوه بجماليات لغة الشاعر وشاعرية ألفاظه وقدرته الفائقة على سبر ذات المرأة كأنثى تحتاج الأنس والود والحب كما تحتاج العشق حتى يكون الوصال مكتملا كثمار الجنة وأكثر لذة. استعارات زادت العبارات جمالا. وترتيب لأبيات القصيدة مقاطع بحسب الخطوات حتى يصل الحبيبين إلى غاية العلاقة بينهما، لتكون هذه القصيدة درجات ارتقاء شاعرية. سيمفونية حقيقية تعزف في آن معا ضمن أوركسترا روحين وجسدين تشترك في عزفها كل خلية أو جزء في كينونتهما. كما لا يفوتني أن أنوه بأن هناك قصيدة تحمل العنوان ذاته للشاعر الفلسطيني “محمود درويش” ورغم عشقي لقصائد “درويش” إلا أنني وجدت أن هذه القصيدة قد تفوقت على نفس مسماها عنده. كانت قراءتي هذه على عجالة وإلا فالقصيدة تستحق دراسة معمقة أكثر تحيط بكل جوانب الإبداع فيها، فعذرا من صاحبها.