أولاً : نصُّ القصيدة :
كم يشع بالحياة
ذلك الحكيم
الذي اختار
عن طيب خاطر
رحابة الموت !
وكم يعاني من الموت
ذلك الجاهل
الذي آثرت غرائزه
بخنوع ماكر
وضاعة الحياة!
ثانياُ : القراءة :
تقوم القصيدة أو تنبني على تقنية التضاد الدلالي أو المقابلة التي يصح أن نقول إنها تستغرق النص بكامله فتجري في ألفاظه و أفكاره و صوره
والمقابلة من مكونات الجمالية في العمل الفني تأتي هنا الشعور بالاختلال من خروج الامور عن مواضعها ، وانقلابها واختلاطها لذلك تحتدم العقدة بأطرافها المتضادة ،فنرى مقدار التشوه الحاصل ، وننفعل انتصارا لكرامتنا وإنسانيتنا بالوقوف إلى جانب الحكمة والتضحية لإرسائها حتى تصير الحياة مستساغة ومحتملة
يقول الشاعر :
كم يشع بالحياة
ذلك الحكيم
الذي اختار
عن طيب خاطر
رحابة الموت !
أكثر ما يلفت النظر في هذه الافتتاحية عبارة ” رحابة الموت ” كأن الشاعر يحيلنا بها إلى ضيق الحياة ، وتازُّقها ، وتأزُّمها ، وتأتي عبارة “اختار(الموت) عن طيب خاطر ” لتؤكد هذا الضيق ، وتوسع دلالته ، فتضعنا أمام إحساس بالعطن والزنخ والعفونة والنتانة
هنا يجدر بنا ان نسال : ما الذي جعل الحياة بهذا الوصف ، حتى صارت قيمتها ومعناها لا يتحققان بغير الموت ، بل صار رفضها أمارة على الحكمة وحسن التدبير وصار عمر المتبرئ منها مشعا بالنور والبهاء ناعما عاطرا مطيبا غير آجن أو آسن أو منتن أوزنخ
وتأتي دلالة التكثير المستفادة من كم لتزيد اختيار الموت رضا وتصويبا
بل أكثر من ذلك تأتي دلالة الإطلاق من جهة أن كم مفعول مطلق لتجعل الحكمة متجسدة في اختيار الموت
لماذا أيها الشاعر ؟! لماذا بالله عليك تجعل النور والبهاء والهناء والرضا والرجابة والرخاء والرغد والرفاه والسعة والفرج واللين والسبغة والاغتناء واليسر والفساحة
تجعل كل ذلك وقفا على اختيار واصطفاء وتفضيل ووتخيُّر الموت ، هل ساءت الحياة إلى هذا القدر ، هل حدرت في هوة ، إن لم نبذل في استنقاذها ارواحنا ووجودنا ، تضيع إلى غير رجعة ؟!!
يقول الشاعر:
وكم يعاني من الموت
ذلك الجاهل
الذي آثرت غرائزه
بخنوع ماكر
وضاعة الحياة !
خنوع، ومكر، ووضاعة، وجهل، وغرائز.. هل يمكن أن تكون هذه المعطيات وسطاً صالحاً للحياة ؟ هل يمكن أن تكون حياة الذلة، واللؤم، والخسة، والدناءة، والانحطاط، وسطا صالحاً للحياة ؟ أليس أولى بمن يتأبى ويرفض هذا القرف، والوسخ، والعفن، أن يشع بالحياة، ومن يرتضيه ويستسيغه ويبرره ويعلي منه بخنوع الاحتيال، ومكر الخديعة، وخسة الغريزة ؟ أليس أولى بمن يفعل ذلك أن يختنق بالموت ؟
حتى تستقيم الحياة إذن، وحتى تتوازن ويأنس فيها الإنسان ويأمن، لا بد من الحكمة وموافقة الحق، لابد من التضحية لوضع الأمور في نصابها، لابد من الموت في سبيل ذلك. فمن تؤثر غريزته ونزعته السلوكية التواطؤ مع الاختلال والباطل والشر والقبح، لابد أن تكون الذلة والدناءة والخسة صفاته، ولن يكون له في حياته غير الوضاعة، فيحق لضده ونقيضه الذي اختار بطيب خاطر الموت وعدم القبول، يحق له شرف الحياة عزا وكرامة، أو الموت حتى تحقيق ذلك.