قراءة في قصيدة الشاعر محمد الحلبي:”أريدُ أنْ أركضَ مع النُّجومِ” ــ ذ. أوس غريب

0
756

أولاً : نصُّ القصيدة :

أريدُ أن أركُضَ مع النُّجوم
وأطرُقَ أبواب الفلاحين
ثُمَّ أهرب
أريدُ أن أسرِقَ أحلامَ الأغنياء
وأحشوها في وسائدِ الفقراء
وأن أدعوَ الأرامل لوليمةٍ
من الذكرياتِ والضفائرِ الباكية
أريدُ أن أقرُصَ البحرَ كل حين
كي لا ينام
وأن أرعى قطيعاً من القصائدِ في
حقلٍ من النهودِ الفتية
أريدُ البُكاءَ طويلاً
والضحكَ طويلاً
أريدُ أن أبنيَ لنفسي بيتاً من وعودِ السَّاسة
وخطاباتِ الحُكَّامِ
وأزرعَ غابةً من قُبُلاتِ العُشَّاق وعكاكيز العجائز
أريدُ أن أكسِرَ زُجاجَ السماء
وأنادي على الملائكة دونما سبب
وأُمازِحَ المآذِن
أريدُ أن أجعلَ حذائي المثقوب شِعاراً
لِـهذه المرحلة الصعبة التي تمرُّ بها رئتي
وأن أكتُبَ فوق أردافِ المقاهي عبارةً بذيئة
عن وطني وبيتي ومكتبتي وقمصانيَ العارية مني
أريدُ امرأةً تتحمَّلُ قبلةً لمدةِ عامٍ كامل
كي أُفرِغ في صدرها تاريخ القهرِ الذي ينهشُني
ثُمَّ أُشعِلَ سيجارةً و
أرتاح

ثانياً : القراءة :
أول فكرة يمكن طرحها حول هذا النص بعد قرائته المتأنية هي أنه غاصّ بالعبث والسخرية، ليس لأن الشاعر يجد صعوبة في فهم العالم وإنما لأنه يجد مشقة وعسرا في قبوله. فالاختلال الذي أصاب العالم فوق طاقة تحمله، والخطر الذي يعصف به فوق قدرة قبوله، والشاعر ملتزم ، ولديه قضية لا تنفك تخزه وتقلقل أمنه، يعرف كيف ينبغي أن يكون، وكيف جدير به أن يجري، يدرك العلة التي تعتريه. لهذا نراه يتوسل في معالجته بتقنيات شتى، يتفنن فيها غاية التفنن، عله يجذب إنسان الغفلة من بحبوحة نومه، ويلفته إلى الهوة التي يحدر فيها..
يقول في فاتحة النص :

أريدُ أن أركُضَ مع النُّجوم
وأطرُقَ أبواب الفلاحين
ثُمَّ أهرب
أريدُ أن أسرِقَ أحلامَ الأغنياء
وأحشوها في وسائدِ الفقراء
وأن أدعوَ الأرامل لوليمةٍ
من الذكرياتِ والضفائرِ الباكية

هذه الأفعال المضارعة التي يزدحم بها المطلع تظهر حقيقة الإرادة ومقدار التصميم الذي تكتنفه وتندفع به، بل لنقل إن الإرادة تأخذ من داخل الشاعر ـ بعد طول الانكماش والتكور والضغط ـ الطاقة التي بها تخترق الباطن وتشع إلى الفضاء مثل النجوم، بل إن الأنجم أنفسها كأنما هي فرسه يركضها برجله ويجرون معا. هذه الاستطاعة التي هي شرط كل إرادة بعد أن اكتملت واحتشدت تسير إلى هدفها الذي لم يجد الشاعر ما هو أكرم منه وأولى، باب الفقراء و الذي ينبغي أن يفتح، ويدخل على ساكنيه الخير الذي يشتهون، ولأن الواقع فظيعٌ جاءت القوة التي تغير الحال، وتفتح أبوابه مكتنفة بالغياب :
( أطرق أبواب الفلاحين ثم أهرب )
أي أقرع الأبواب وأدقها وأنقر عليها ثم أغيب وأتوارى وأختفي.

ولأن الواقع أقسى وأدهى تأتي عملية تقويمه وتسويته على غير المسار الطبيعي في حدوث الأشياء، فتكون أداة مساواة الفقراء بالأغنياء نافرة، ناكرة : السرقة.. لا يكتفي بذلك بل يجعل ما يلصه من الأغنياء ليس أموالهم وثرواتهم، بل أحلامهم التي لا يزفها إلى الفقراء، بل إلى متكأهم ووسائدهم، هل من حزن يساوي هذا الحزن، وهل من تفجع وانكسار يساوي هذا التفجع والانكسار،
يسحب أحلام الأغنياء من فضاء نومهم ويحشو بها وسائد نوم الفقراء، كأن عالم الصحو غير مقدور له أن يعرف شيئا من وصل الغني بالفقير، أو فتح باب الفقير على الغني. لماذا كل هذا الاستعصاء لأن ميزان الحس والوعي (الضمير) الذي يميز به الناس الصح من الخطأ والخير من الشر والحق من الباطل، مطموس غارق بالظلمات والغرور والانخداع والشهوات، لهذا فإن من ليس له من يطعمه ويعوله ويعضده (الأرامل) تزف له مأدبة من هذا الاختلال وأيامه التي تمتد بعيدا في حافظة المعدمين.

يقول الشاعر :
أريدُ أن أقرُصَ البحرَ كل حين
كي لا ينام
وأن أرعى قطيعاً من القصائدِ في
حقلٍ من النهودِ الفتية

لا يخفى ما في هذا المقطع من إشارات الخصوبة، ودواعي الحياة، فالمشهدية عارمة والتخييل بارع، ولكن الألم ما يزال يرشح، فما الذي يقصده الشاعر بنوم البحر.. ينام البحر على ثروات متنوعة العطاء، والثراء، من نفط، وغاز، ومرجان، ولؤلؤ، وإسفنج، وسمك، ونباتات تمتص كربون الموت، وتنفث أكسجين الحياة، فضلا عن امتصاص حرارة الشمس وتحويلها مطرا تزرعه الريح كل مكان. يجب أن لا ينام البحر على كل ذلك، فلابد أن يصحو ويمد يديه بالعطاء، كيف والبحر هنا هو البحر العربي الذي يفوق في مدخراته كل بحر بممراته، وطرقه، وموقعه الذي يستظل القارات الثلاث، والذي يجعل العالم عالة وكَلا على آهليه، فيه أوردة العالم وشرايينه من باب المندب إلى مضيق هرمز، فجبل طارق، فقناة السويس. هل يستطيع العالم أن يحيا أو يتنفس إلا من رئتيه
ولكنه نائم، بل سائب، وضائع ضياع عناصر الحياة في أنسه وحيوانه ؛ إلا إذا قدر معادل الفن أن يسري إليه باليقظة التي يزخر بها وبالحياة التي تلهب يفاعه، فيجري على نقابه بالبقر، والغنم، و الماعز، والجمال، وعلى فتيانه بفكيه الدعاب واللعاب والمراس والعفاس.

يقول الشاعر :

أريدُ البُكاءَ طويلاً
والضحكَ طويلاً
أريدُ أن أبنيَ لنفسي بيتاً من وعودِ السَّاسة
وخطاباتِ الحُكَّامِ
وأزرعَ غابةً من قُبُلاتِ العُشَّاق وعكاكيز العجائز
أريدُ أن أكسِرَ زُجاجَ السماء
وأنادي على الملائكة دونما سبب
وأُمازِحَ المآذِن
أريدُ أن أجعلَ حذائي المثقوب شِعاراً
لِـهذه المرحلة الصعبة التي تمرُّ بها رئتي
وأن أكتُبَ فوق أردافِ المقاهي عبارةً بذيئة
عن وطني وبيتي ومكتبتي وقمصانيَ العارية مني

يريد أن يمد سيل دمعه أفقيا وعموديا، فماذا يمكن أن يشقيه ويحزنه، ويقتطع من قلبه كل بهجة أو حلم أكثر من الذي يراه ويعاينه من الضياع، والخواء. بلاد تضج بالرؤساء والملوك والعواهل، كما يضج قلب المنافق بالأضاليل والخدع. من أين يدخل التغيير إليها، هل من بوابة تسمح بالولوج والاستنقاذ لم يدنسها الساسة ويعطبها الحكام ؟
إذن فليبني من كلماتهم ووعودهم مخروبته.
هل أخطأ الشاعر في هذه السخرية اللاذعة ؟
ولأن الحاكمين رابضين على صدر الحياة بقوة الدين ومواعيظ الفقهاء، فقد استحقت السماء وناسب المآذن نصيبهما من السخرية، هي مرحلة الإنجازات العظيمة، والشعارات البراقة، صرعت العالم بفتوحات خزيها حتى استحقت أن يكون لها في حذائه المثقوب أمارة وعلامة.
اما رغبته بالبذاءة يكتبها ويشم بها أرداف واقفية المقاهي، فلأن ساحة الحرب المعزة مقفرة، ومنابر العلم المشعة مطفأة، وسيف العدل القاطع مثلوم، ما من مؤسسة شغالة ومشرعة الأبواب إلا المقاهي، بيت الكلام، ودار الثرثرة، ونادي اللغو، في أمة لم تعد تنجز شيئا وراء ذلك.

يقول الشاعر :

أريدُ امرأةً تتحمَّلُ قبلةً لمدةِ عامٍ كامل
كي أُفرِغ في صدرها تاريخ القهرِ الذي ينهشُني
ثُمَّ أُشعِلَ سيجارةً و
أرتاح

يتابع سخريته باللهجة التي ينزف فيها قلبه وتتصعد روحه، يقول أريد أن أحول القهر إلى قبلة، أمدد زمنها على تاريخه علها تنسيني ما رأيت أو أرى من عنف، وتسلط، وقمع، واحتقار، وإذلال، وامتهان، وعبث، وإكراه، وإخضاع، وجبر، واضطرار، وتعسف، وبغي، وتحكم، وجور، وتعذيب، وضيم، ومنية، وحمام، وإهلاك.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here