أولاً : نصّ القصيدة :
1..الشعراء
يتأبطون وجوههم
ليرقصوا عراة
في عرس المجاز..
2.. على خد قصيدة هاربة
وجوه تمارس التأويل..
3.. أفتح نوافذ وجهي
لسماسرة الريح..
لأنسى وجوها مزيفة..
4..خلف تجاعيد وجهي
يدي المتمردة
تدونُ سيرتها..
…….
ثانياً ؛ القراءة النقدية :
تقسّم الشاعرة نصها إلى أربعة أقسام أو يمكننا أن نقول إلى أربع لحظات، محطات، وقفات، مقاطع، لا مشاحة في الاصطلاح،
المهم تتدرج الشاعرة في تظهير حالتها، وتفريد شواغلها، وتجربتها عبر هذه المقاطع على نحو الإجمال والتفصيل..
تقول في المقطع الأول ، في فاتحة النص :
..الشعراء
يتأبطون وجوههم
ليرقصوا عراة
في عرس المجاز..
الشعراء يتأبطون وجوههم؛ أي يحضنوها ويتولون رعايتها مثلما تحضن الأم طفلها وتتولى العناية به، أو يجعلون وجوههم تحت آباطهم، كمن يلوذ بسلاحه ويخرج به إلى جليل المبتغى، أو كمن يضم إلى جنبه كنزه يتحسسه ويستشعر قيمته. والوجه هنا هو الذات، هو الأنا وقد رفضت أن تتخذ قناعا.
ما الذي استوجب هذه الرعاية والحدب؟
و ما الذي استلزم واقتضى تلك الحفاوة والعناية؟
لماذا يكترث الشعراء بوجوههم؛ فلا يرتضون لها تمويها أو قناعا ؟ لماذا هذا الحرص كله على الانكشاف والبروز من غير ما ستر أو حجاب ” يرقصوا عراة ” ؟
يريدون انكشافا يواكب إيقاع الروح، فيأتي على قد تطلعها واحتدامها. ثم أي عرس للمجاز يستدعي كل هذا العري وهذه الاحتفالية والزفة. المجاز هو البرزخ الذي يسكنه الشعراء فيجعلهم بين مكانين الواقع والحلم، المتحصل والممكن.. هم عراة فيه بمعنى أنهم الجوهر الذي اكتفى بماهيته عن كل عرض، فتلك الإضافات التي يحرص الناس أن يبرزوا منها ويخضعوا لها ويتقنعوها يراميها الشعراء عن ذواتهم، يضعونها تحت أقدامهم، وفي مكب نفاياتهم، كأنها قيود تحد حركتهم وتكبلهم، أو عويضات من شأن الناس أن يغطوا بها نقائصهم وعيوبهم. لذلك يلقيها الشعراء عن كاهلهم حتى يطيروا ويخفقوا ويملؤوا إذعان العالم وخضوعه بطاقة التمرد والعصيان والرفض، بطاقة العبور، أو يعلنوا أنه ما من قناع يمكن أن يساوي في قيمته الوجه مهما كان عنصره ومادته.
تقول الشاعرة :
.. على خد قصيدة هاربة
وجوه تمارس التأويل..
ليست وجوه الشعراء وحدها من يأنس بتلك الزفة، ويفرد على مسرحها طاقة ابتهاجه ونزعة خفوقه. هنا وجوه أخرى لها تكثر وتنوع وتعدد كما تفيد دلالة التنكير في كلمة “وجوه”، كأنما الشاعر بالخمرة التي يعصرها، وبالشراب الذي يزجيه يفسح للعالم كله أن يتخفف من تزمته وركوده.
والقصيدة هاربة هنا بمعنى موغلة وممعنة في الترك؛ ترك القيود والأخطار والإشراطات التي تحبس ماء الروح وتفسد ريحها،
لم تقل الشاعرة وجه القصيدة فقالت خدها والخد جانب من الوجه وليس الوجه كله، وهذا أخذ وترك في آن معا.
فلما كانت القصيدة في جانب منها واقعا، وفي جانب آخر ممكنا، فإن الشاعرة تركت الواقع بعد أن بلته وخبرته وقصدت الحلم تريد أن توسع على الناس وتقودهم إلى رحابة أفسح وأبرح، تقول لقرائها تعالوا إلى أبعد مما أنتم فيه. ولأن ذات الشاعر حين تكشف سرها تكشف العالم كله صار حلم الشاعرة حلم الحياة نفسها..
تقول الشاعرة :
أفتح نوافذ وجهي
لسماسرة الريح..
لأنسى وجوها مزيفة..
هذه الذات التي صارت ذات الشاعرة وذات العالم في آن معا، قمينة بأن تنهي ذلك الغش والكذب والباطل حين تفسح للريح التي هي الطيب والقوة والغلبة والنصر والرحمة، أن تنفذ إلى الحقيقة وتشيع في واقعها المغشوش وساطة الفن ووكالته العليا.
تقول الشاعرة وقد امتلأت بالريح :
.خلف تجاعيد وجهي
يدي المتمردة
تدونُ سيرتها.
اليد المتمردة التي عصت وتجاوزت الطاعة بعد أن استروحت بالروح تخط سيرتها، أي ترسم نهجها وتظهر طريقتها التي تخفي وراء التجاعيد ماء الحياة، ماء التجدد والتغيير والمجاز، كما أن الشاعرة بالفن عرفت كيف تطهر عالمها وتنقيه وتبعث فيه قوة الجمال والحق، أرادت وعبر سرد سيرتها أن تدل الناس وتفتح أعينهم على وقائع أخرى. فالريح التي نفذت هي الريح الحلم دخلت نوافذ الواقع فأزاحت غشه وكذبه وضلاله.
للطيب والنصرة والرحمة والغلبة.. للجمال والحرية والحق والعدل.. للوجوه الصريحة من غير أقنعة أو زيف.