وتغريني بما غنجت
وراء ستائر الجدران
ولم تعلم بأني لا
محيد لدي عن إنسان
لديك طبيعة أنثى
ولي شرف غدا عنوان
شاعر عندما يحكي حكايته يسبق فؤاده بالنطق لسانه، ليكون إحساسه العميق هو الذي يدلي بالشهادة. شهادة حق كما هي شهادة عقل ومنطق.
هي امرأة
كما امرأة العزيز
غوت غواية سحر
فما ظفرت سوى
بالنفس قد أنفت بغية مصر
بنورك يوسف أطعمت
هذا القلب قطعة طهر!
هي “قيمنا” التي تحكمنا، بل تتحكم بنا رغم أننا من اخترنا الالتزام بها، ورغم أن بأيدنا نحن تغييرها واختيار غيرها إن أردنا، إن رأينا أنها تميل بنا عن قيم الحق والخير والجمال. وفي هذه الرواية والتي سبقتها يتضح لنا هذا من خلال سلوكيات أبطال الروايتين، فلو أننا قارنا بين الظروف المعيشية القاسية التي كانت تعيشها جميع شخصيات القصة بشقيها لتجلت لنا مفارقات رهيبة، فليست ظروف “حضراوي” أقل قساوة من ظروف حياة “بخيت” و”ببلاوي”، هذا إن لم تكن أصعب، لكن الفارق في أخلاقيات كل منهم. في صدق الانتماء إلى منظومة القيم التي يرى كل منهم أنه يعتنقها. وكل من يعيش قيمه السامية “يوسفي الهوى” فعندما يصبح هوانا هو ذاته قيمنا السامية، هو ذاته “قول وفعل”، حينما لا يتسلط علينا الإغراء ويلغي عقولنا، عندما ننفذ ما أمرنا الله به نكون يوسفيين حقا، ولا تقل لي أن يوسف كان مؤيدا من ربه معصوما بعصمة النبوة، فكل من عصم نفسه بأوامر الله معصوم. فلو كان ذلك كذلك فلم قد يكون ليوسف من فضل يجزى عليه، فالله عادل، تذكر ذلك وعندها قل ما شئت أن تقول. ويقابل هذا في الكفة الأخرى من الميزان قول من ارتكب فاحشة أو أتى أمرا مشينا ويقول: هذا ما كتبه الله علي، فلم تحاسب عند الله عليه لو كنت صادقا. كان بإمكان “حضراوي” وبكل بساطة من لا قيم سامية تحكمه أن يستجيب لإغراء الأنوثة وهو الغريب الوحيد ولا رقيب ولا حسيب من بشر، بل بالعكس تماما -كان القاضي راضي- وأقصد بهذا زوج السيدة. هو في البداية من دعاه دعوة تلميح، ثم هو من صرح للدائن بإمكانية تعويض حقة المادي بشيء من عرضه، أي عرض ببلاوي ذاته، بل قل عرضه وشرفه معا. وكأنما تلك المرأة قد اشتراها بحر ماله من سوق العبيد ويريد أن يقايض بها حقا بحق. ترى لو أن “حضراوي” وافق على العرض وحصل حقه بتلك الطريقة المشينة فهل كان يمكن أن يكون على ما هو عليه الآن، أو لكان تمكن من نشر قصته، أو استطاع أن يفتخر بنفسه حتى بينه وبين نفسه؟!!
هي إذا رواية أخلاقية بامتياز بين طرفي النقيض. بين صاحب قيم وبين من لا قيم له. بين من يقف على ذروة سنام الخلق الحسن، تمكن من الاستواء عليه بعد تجربة أثبتت صدق ما يدعيه وبين من يقف على جرف هار انهار فيه إلى الهاوية. بين من تمسك بحبال الله فصعد وبين من تمسك بحبال بالية تقطعت به فسقط..
من الملفت في هذه القصة الثنائية الحكاية أنهما روايتان متداخلتان، متداخلتا الأحداث والأشخاص في فترة زمنية واحدة ومكان يمتد بين مدينتين مصريتين هما القاهرة والاسكندرية، تحكي معاناة البطل بين صائدي المال ولكن بأسلوبين مختلفين، فالأول “بخيت” الذي أراد تحصيل ما يمكن تحصيله من مال “حضراوي” عن طريق الوعود الكاذبة التي يبرر عدم تنفيذها لأسباب واهية. والثاني وشريكته -ببلاوي وزوجته- أرادا اصطياده من خلال إيقاعه في هوة الفاحشة، لكنه لم يتنبه إلى ذلك إلا متأخرا جدا، ففي الرواية الأولى كانت اللحظة الفاصلة هي تلك اللحظة التي أزالت سحر الساحر عن عينيه عندما أخبره بخيت بحقيقة تكلفة إنشاء دار نشر جديدة، وهو الذي قد حصل منه أضعافا مضاعفة بالرغم من أن الأمر بينهم كان شراكة، أما اللحظة الحقيقية الأخرى فكانت عندما عرض عليه “ببلاوي” وبكل وقاحة تسديد الدين له من خلال عرضه وشرفه. وليكون هذا الحوار:
- لو إنت عايز فلوسك أنا ممعيش والله.
- والحل؟
- الحل أن تأخذها بشكل تاني.
- وما هو؟
- زوجتي شيرين.
- ما بها؟!
- مقابل المال المستحق علي، ولك أن تتمتع بها المدة التي تشاء، وكل مرة تزور فيها مصر، على أن يبقى الأمر سرا بيننا، أرجوك، حتى تكتفي منها وتقدر أنك استرجعت حقك كاملا”..
صدمة وأية صدمة!! تلك التي أظهرت حقيقتي بخيت وببلاوي بعد أن كان يظن أنهما من خيرة من عرف بقاهرة المعز. فما كانت دار النشر “كليم” إلا شباكا للصيد عند “بخيت”، وما كان “الإعلام” إلا مكانا مناسبا لاصطياد الزبائن عند “ببلاوي” له ولزوجته، “هما وجهان لعملة واحدة اختزلت في القاهرة! القاهرة، هذه المدينة التي ألهمتني وسحرت مخيلتي منذ أن قرأت عنها منذ عهد الصبا قصصا أشبه بالأساطير”..
صدماته أخذت تتلاحق، “هويدا” التي علم فيما بعد بمؤامرتها عليه مع “ببلاوي” لتحصيل قطعة من الصيد الثمين. “مها” التي تقمصت شخصية شاب خليجي لتوقع به لحساب بخيت. صديقة “بخيت” المقيمة في فرنسا والتي لاحقت شهوة الشهرة حتى وصلت بها للوقوع في شراكه. ذاك الشخص الذي تصور أنه واحته في صحراء من عرف في مصر، إنه مصمم الأغلفة الذي كان يأنس به في منطقة -حي الزاوية الحمراء- “عادل” الرجل الطيب الذي لم ينصفه حتى في رأيه فيه بل سخر منه إذ اعتبر أنه -أي حضراوي- ما جاء مصر إلا ليفتح جمعية خيرية، يثق بهذا وذاك ويستأمن تلك وتلك.
صدمات أصابته يرتج من تأثيرها أي إنسان سليم النفس مهما كان قويا معافى، وخلع لأجنحة كانت تحمله إلى فضاءات ممتدة ليهوي إلى واقع ما تخيل وجوده ولا في الكوابيس حتى، كل ذلك دفعه إلى محاولة استرداد حقه المعنوي قبل حقه المادي وإذ لم يتم إنصافه أو حتى الاعتراف بهذا الحق كتب الروايتين، وسوغ لنشرهما.
فكيف سوغ لنشر روايتيه؟
هي تلك الصدمة المدوية المؤلمة التي أفقدته ثقته بكل ما هو مصري، من لحظة دخوله مطار القاهرة في أول زيارة لها وحتى آخر لحظة عند مغادرتها عائدا إلى غربته بعد ثالث رحلاته. صدمة وإن كانت قاسية -بقساوة هي ذاتها مقياس لغيرها- لكنها فلقت له باب إبداع جديد ما كان يخطر له على بال. باب كتابة الروايات، فقد كانت هذه الصدمة سببا لتسجيل ما حدث وبأسلوب مميز، أدبي تسجيلي، يحاكي خيالات المبدعين وإن كان قطعة من واقع بكل تفصيلاته. إبداع صياغة وتسويغ وسرد يجعلك تعيش كل لحظة وكأنك مشاهد لتصبح له شاهدا وشهيدا، تتفاعل معه، تحزن لخيباته، تتألم لكل اقتطاع ورقة خضراء أو زهرة أو غصن من شجرة الحب التي نبتت في وجدان الشاعر “حضرواي” لمصر حتى اجتثاثها وإلا لما تمكن من كتابة هاتين الروايتين. إبداع ولكنه من ذاك الإبداع الراقي الذي لا يزين الشين – أي الشر والقبح والغواية بل يصف تلك المعاني بما يجعل القارئ يستقبحها وينفر من تلك السلوكيات التي تتبدى فيها. وهذا بحد ذاته يحتاج إلى قدرات فنان حقيقي ذا قيم راسخة فيه. وقدرات بلاغية تمكنه من الرسم بالكلمات عبارات دقيقة يستشف القارئ منها تقزز الكاتب مما يجعل الشعور ذاته يسري إليه.
“مصر هبة النيل.. هذا البلد العظيم الذي يغري كل من قلّب صفحات التاريخ والإنسان بزيارته ولو لمرة واحدة في العمر..”، عشقه غيبا وقطع المسافات الطوال فقط “ليستنشق فيه هواء الأنبياء”، يقابل فيه حثالة، بقايا بشر جعلته يقول عنهم هم: “.. الذين جعلوا مصر في الوحل!” فأراد أن يستنقذها منهم. أراد أن يستنقذها من “سلالة عبيد الفراعنة”، من “سلالة عزيز مصر” الذين عبدوا نفوسهم للمادة على حساب القيم كما سبق أن قبلوا بالظلم ولم يثوروا يوما عليه. من أساؤوا فهم “الثورة” ودعوا بخراب بيتها وبيت من عملوا لها. لهم “رؤية أصبحت ثقافة مؤصلة ومتأصلة وقديمة جدا تبلورت في الاستكانة والكسب بأية طريقة ومن أي مصدر ولو كان القهر، المهم أن تدر دراهم معدودات”، حثالة أباحت لنفسها أفعالها المشينة بكل ما جادت به قرائحها من أساليب ملتوية. ترحيب وكلمات معسولة، آمال وأمانٍ عظام حتى بدا “الببلاوي” بالذات وكأنه الأخ لأخ لم تلده الوالدة ذاتها. تحذير غادر من غادر، وخائن من خائن، ووسائل استدراج إلى الغواية، دعوة قبيحة لفعل أقبح. فكيف يقبل أمثال هؤلاء بثورة تغير كل مفاصل الحياة التي اعتادوها وما عرفوا غيرها!
فمن مفارقات القدر أن تكون زيارته لمصر إبان ثورتها على الفساد بكل أنواعه وتلوناته، ثورة على الوخم الذي تغلغل في واقع حياتهم لعل الثورة تغسله وتعيد له شيئا من نظافة ينعمون بها. ثورة تغسل أدران واقع بائس، فكيف لا يثور عزيز النفس، كريمها وهو يرى أن حثالة من أولئك يحاولون جره إلى ما هم فيه، وهو يستعصم بحبل من الله، من دينه وقيمه وسمو أخلاقه، مأساة وأية مأساة هي تلك المعاناة التي عاشها بينهم! مخزون من القهر كان يتعاظم مع كل حقيقة تتكشف له عنهم، ويتطاول مع كل حدث جديد منهم، ويتضخم مع كل قيمة خير يدوسونها غير مبالين، فكان لا بد من إفراغ ذاك المخزون وإلا لكان نحر الوجدان في معابد للشيطان بشعائر ذل ومسكنة. “فالتغيير يكون أولا من الذات قبل الانتقال إلى الآخر، فلا يكفي أن تلقي كل المسؤولية على الآخر وتجعل منه شماعة تعلق عليها كل شيء..”. هكذا يفهم حضراوي الثورة وأية ثورة. فكيف لا يثور وهو يرى نفسه بين أيديهم “يوسفا” يتساومون عليه ما بين بائع ومشتر.