قراءة في رواية “سبعون يوما وراء الشمس” للشاعر والأديب أحمد حضراوي/ الجزء 4 ــ ذ. نصر سيوب

0
30

3 ــ الأحداث :
ـ الجزء ١١ :
يتناول هذا الجزء تفاصيل الاعتقال في زنزانة مكتظة بالمعتقلين، معظمهم من الطلبة المنتمين لجماعة إسلامية، حيث يُنظَّم المعتقلون ذاتيّاً عبر انتخاب “أمير” وتشكيل لجان لإدارة شؤونهم اليومية. يصف الراوي تحوُّل الزنزانة إلى فضاءٍ من التعاون رغم الاكتظاظ، مع إبراز التوترات الناتجة عن الاختلافات الثقافية واللغوية بين السجناء، خاصةً مع وجود مجموعة تتحدث اللهجة الأمازيغية بشكل حصري، مما يشعره بالعزلة.
تتسارع الأحداث مع الاستعداد للمحاكمة الأولى، حيث يُنقل الراوي ورفاقه إلى المحكمة تحت حراسة مشددة. داخل القاعة، يسود جوٌّ من التحدي من قِبل المعتقلين والمؤيدين، بينما يُواجه الراوي اتهاماتٍ واهيةً بالانتماء لجماعة محظورة وحيازة أسلحة. يُظهر موقفاً متحدياً أمام القاضي، مدافعاً عن براءته بلسانٍ حادٍّ، مستنداً إلى ضعف الأدلة وعبثية التهم.
خلف الجدران، تطفو على السطح معاناةٌ إنسانية عميقة؛ من قسوة الظروف السجنية، إلى الرسالة المؤثرة من أم الراوي التي تذكِّره بثقل التضحية وخوفها على مستقبله. تُمزِّقه التناقضات بين الشعور بالفخر بالمقاومة والندم على خيارات قد تُكبِّده ثمناً باهظاً.
يواصل الكاتب بسرد تفاصيل الحياة اليومية داخل السجن، من الصلوات الجماعية والدروس الدينية، إلى المحاولات الفردية للحفاظ على الإنسانية وسط القهر، مثل قصيدة الراوي/الكاتب التي تعكس ألم السجن وأمل التحرر، رغم رفض أحد الشيوخ المتشددين وهو الشيخ الحابري للشعر كتعبيرٍ “غير شرعي”. ليبرز تطور غير متوقَّع في شخصية هذا الشيخ الذي يتحول من رافضٍ للشعر إلى تلميذٍ متحمس يتعلم قواعد العروض سرّاً من الراوي. تُكشف هذه العلاقة عن تناقضات داخلية بين التمسك بالتقاليد الدينية الصارمة وانفتاحٍ خفيٍّ على الفنون، مما يُظهر هشاشة الحدود الفاصلة بين “المشروع” و”الممنوع” في ظل الظروف القاسية.
تتكرس الطقوس الجماعية (الصلوات، الدروس، السمر) كوسيلة لإعادة بناء الهوية الجمعية، حيث تذوب الفروق الفردية تدريجيّاً لصالح خطابٍ موحَّدٍ يعزز التضامن. مع ذلك، تظلّ الإشارات إلى الاختلافات الخفية قائمة، كرفض بعض السجناء الانصياع الكامل لأجندة الجماعة، أو التوترات اللغوية مع المجموعة الأمازيغية التي تُذكِّر باستمرار بوجود “الآخر” داخل الفضاء المغلق.
من ناحية أخرى، يُبرز هذا الجزء مقاومة السجناء الرمزية عبر تحويل السجن إلى فضاءٍ للمعرفة (من خلال المطالعة والمناقشات) والإبداع (ككتابة الشعر)، بينما يُواجه الراوي تناقضاتٍ شخصيةً بين الفخر بالمقاومة والشعور بالاغتراب عن الذات، خاصةً مع تلقّيه رسائلَ عائليةً تذكِّره بثمن التضحية على مستقبله.
تنتهي الأحداث بإعادة تشكيل مفهوم “الحرية” داخل الجدران، حيث يصبح السجن مختبراً لتجارب إنسانية معقدة تختلط فيها القوة بالضعف، والأمل باليأس، والانتماء بالتمرد، مُعلنةً أن الصراع الحقيقي ليس ضد القضبان، بل ضد الأشباح الداخلية التي تهدد بتحطيم الإرادة.

ـ الجزء ١٢ :
يتناول هذا الجزء استمرار الحياة داخل السجن بوتيرةٍ رتيبة تُسيطر عليها الطقوس الدينية والتربوية التي تفرضها الجماعة الإسلامية على المعتقلين، كالصلوات الجماعية، وقراءة القرآن، والذكر، في محاولة لبناء هوية موحَّدة تُخفف من قسوة الظروف. تُكشف التناقضات بين المثالية الدينية المعلنة والواقع الفاسد للسجن، حيث يتحول الحراس إلى وسطاء فاسدين يتاجرون بالمخدرات ويُسهّلون شبكات الدعارة بين السجناء، خاصةً مع “النزلاء المميزين” الذين يدفعون مقابل امتيازات.
من ناحية أخرى، تُظهر الجماعة الإسلامية مقاومة رمزية عبر التحدي الصوتي (الأناشيد، الهتافات) الذي يُوحّد السجناء ويُربك سلطة الحراس، بينما يبرز تمايز المجموعة عن غيرها برفضها المُطلق للمخدرات والممارسات المنحطة، مما يمنحها هالةً من الهيبة تُجبر الحراس على التعامل بحذر معها.
في الخلفية، يعكس الجزء اغتراب الراوي الداخلي رغم اندماجه الظاهري، فهو يُحاول التمسك بشغفه بالشعر كملاذٍ فردي وسط الضغوط الجماعية، بينما تُطارده هواجس عن ضياع مستقبله الدراسي، وفقدان الذات في بحر التشابه القسري الذي تفرضه الحياة خلف القضبان. تُختتم الأحداث بإبراز ثمن “الحرية النسبية” التي كسبها السجناء، والتي تعتمد على توازن هشٍّ بين التمرد الخافت والخضوع لسلطةٍ فاسدة، مُذكِّرةً بأن السجن ليس سوى مرآةٍ مُكبرةٍ لفساد المجتمع خارجه.

ـ الجزء ١٣ :
يتناول هذا الجزء تطورات ما بعد صدور الأحكام القضائية على المعتقلين، حيث تتنوع الأحكام بين الإفراج الفوري لبعضهم وعقوبات سجن متفاوتة لآخرين، تتراوح بين سنة وخمس سنوات. يُظهر الراوي ردود فعل السجناء المتباينة؛ فالبعض يقبل الحكم بالتهليل والرضا، بينما يغلب الصمت والوجوم على آخرين، خاصة مع تذكُّر ثقل التضحية وغياب اليقين بالمستقبل.
تتكشف المفارقات في النظام القضائي من خلال تهافت التهم وضعف الأدلة، مما يُبرز عبثية المحاكمات التي تعتمد على ملفات مُلفَّقة. يتعامل الراوي مع حكم السنة بالسجن بمزيج من الدهشة والسخرية، خاصة مع عدم إثبات أي تهمة محددة ضده، بينما يُظهر آخرون صموداً روحيّاً يعكس عمق إيمانهم بفكرة “التضحية من أجل القضية”.
في مواجهة القمع، يُبتكر برنامج “اللقاء الخاص” داخل السجن كفعالية ثقافية تهدف إلى كسر حاجز العزلة بين السجناء عبر حوارات مفتوحة تتعمق في سِيَرهم الشخصية وأفكارهم. تُكشف هذه الجلسات عن تنوع الخلفيات وتقارب التجارب الإنسانية، مما يعزز التضامن كسلاح ضد محاولات النظام تفكيك تماسكهم.
يُبرز الراوي أيضاً استمرار المقاومة الرمزية عبر الطقوس الدينية إلى جانب كتابة الشعر كوسيلة للتعبير عن الصمود، مثل قصيدة “في مدرسة السجن” التي نظمها، مُعبِّراً فيها عن تحويل المعاناة إلى درسٍ للثبات، رغم محاولات التشويه من قبل بعض المنتسبين للجماعة الذين يرون في الإبداع الفني انحرافاً. في الخلفية، تستمر حياة السجن الرتيبة بطلقاتها القاسية : حراس فاسدون، وزنازين مكتظة، وهمسات عن شبكات التهريب والدعارة التي تُدار بخفاء.
تنتهي الأحداث بإحساسٍ مُرَقق بالاغتراب؛ فالسجن لم يعد مجرد مكان للعقاب، بل تحوّل إلى مرآة تعكس تناقضات المجتمع خارجه، حيث تُختزل الحرية في القدرة على الحفاظ على الذات وسط دوامة التشييء والنسيان.

ـ الجزء ١٤ :
يتعمق الراوي في سرد تفاصيل الحياة داخل السجن بعد صدور الأحكام الابتدائية، حيث تُظهر الزيارات العائلية جانباً إنسانيّاً مؤلماً، خاصة لقاء الراوي بأمه وأبيه وأخواته خلف القضبان، وكيف تحوّل هذا اللقاء إلى لحظة اختبار للصبر والأمل وسط شعور بالظلم. تبرز قصيدته “أم السجين” كرمز للقوة الروحية والتضحية، بينما تُكشف التناقضات الصارخة بين الواقع القاسي للسجن (انعدام الرعاية الصحية، انتشار الفساد، تداول المخدرات) والصورة المُعلنة عن “الإصلاح” الذي تروج له السلطات.
من ناحية أخرى، يُدخل السجنُ معتقلاً جديداً تَظهر قصته كيف تحوّل الخوف من الاعتقال إلى قناعة بأن السجن قد يكون ملاذاً من ملاحقة خارجية أكثر قسوة. تُبرز العلاقات بين السجناء تمايزاً بين من تقبلوا الأحكام كجزء من “الابتلاء الإيماني” وبين من يحملون جراحاً نفسيةً عميقةً، خاصة مع اقتراب جلسة الاستئناف التي يُنتظر أن تؤكد الأحكام أو تخففها.
يختتم الراوي الجزء بإشارة إلى استمرار المقاومة الرمزية داخل السجن عبر البرامج الثقافية (كـ”اللقاء الخاص”) التي تكسر حاجز العزلة، بينما يظل الشكُّ مسيطراً في مصير الجميع، حيث تُذكِّر التفاصيل بأن السجن ليس سوى مرآة لمجتمعٍ أوسع تختلط فيه المثالية بالفساد، والأمل باليأس.

ـ الجزء ١٥ :
يستمر السرد في تصوير معاناة السجناء داخل السجن، مع تركيز خاص على جلسات الاستئناف التي تُعيد محاكمة المتهمين بأحكامٍ تتراوح بين السنوات القاسية والبراءة. تُكشف التناقضات الصارخة بين إجراءات المحكمة الشكلية وبين واقع الأدلة الضعيفة والاتهامات المُلفَّقة، حيث يُظهر القضاة والمستشارون انحيازاً ضمنيّاً للنظام، بينما يحاول المحامون عبثاً دحض التهم عبر حجج قانونية وأخلاقية.
من ناحية أخرى، تتجسَّد المعاناة الإنسانية في الزيارات العائلية المؤلمة، خاصة لقاء الراوي بأمه التي تحاول إيصال رسالة أملٍ من خلف القضبان، بينما يُظهر الأبوان وأخواته مزيجاً من الحزن والغضب على الظلم الواقع. تُبرز القصيدة التي يكتبها الراوي (“سجون البغي”) رؤيته النقدية للسجن كرمزٍ للقمع الاجتماعي والسياسي، ووسيلةٍ لسحق كرامة الإنسان تحت ذرائع “الإصلاح”.
في الداخل، تتعمَّق العلاقات بين السجناء، حيث يظهر “عبد الوهاب بنطاهر” كشخصيةٍ روحيةٍ غامضة، تُقدّم دعماً معنويّاً عبر الرقية والصلوات، بينما يُظهر “محمد حراني” (المحكوم عليه بخمس سنوات) صموداً فريداً في مواجهة اليأس، معتبراً السجن فرصةً للتعلُّم والتأمل.
لا تغيب التفاصيل القاتمة عن المشهد: انتشار الفساد بين الحراس، وتجارة المخدرات، والتحرشات الجنسية، والتي تُظهِر السجن كمرآة لمجتمعٍ خارجيٍ فاسد. مع ذلك، تبقى المقاومة الرمزية حاضرةً عبر الطقوس الدينية والأنشطة الثقافية التي ينظمها السجناء، كالمناقشات والقراءة، كمحاولةٍ لاستعادة إنسانيتهم المسلوبة.
يستمر الراوي في سرد تأملاته في مصير المجموعة المتبقية من الطلبة، خاصةً أولئك المتهمين بجرائمَ خطيرةٍ (كالقَتْل)، حيث يظل الأمل مُعلَّقاً على عدالةٍ غائبة، بينما يُصارع الجميع شبح الوقت الراكد خلف القضبان، مُدركين أن المعركة الحقيقية ليست ضد الجدران، بل ضدّ أشباح الذات والمجتمع الذي أنتجهم.
يذكر الراوي تاريخ 10 يناير 1992 حيث صدرت الأحكام النهائية على المجموعات المُعتقلة، فحُكِم على مجموعة من الطلبة المُتهمين بالقتل والاختطاف بعشرين سنة سجن لكل منهم، بينما بَرَّأت المحكمةُ الراوي ومجموعته من التهم. جاء خبر البراءة مُفاجئاً للراوي عبر حارس السجن، الذي نقل له البشرى بعد لقاء والده خارج الأسوار. رغم فرحته بالحرية، انتابته مشاعر مختلطة من الحزن والشعور بالذنب تجاه رفاقه الذين واجهوا أحكاماً قاسية، خاصةً مع صرخاتهم المُفعمة بالتحدي: “عشرين سنة في الزنزانة، ما توقف زحفنا”.
تُظهر القصيدة “مشعلي في الدنا” التي كتبها الراوي في تلك اللحظات، صراعاً داخليّاً بين الرغبة في المقاومة وثقل التضحية، معبرةً عن إيمانه بالعدالة الإلهية ورفض الخنوع. بينما يُبرز انتقال المشهد بعد تسعة عشر عاماً إلى بروكسل، حيث يقرأ الراوي خبر إطلاق سراح بقية الطلبة، قصةَ صمودٍ طويلةٍ تتجسد في قصيدة “السجن عز”، التي تُصوِّر السجنَ كمدرسةٍ للكرامة ونارٍ تُذكِّي عزيمةَ المُضطهدين.
يختتم الراوي هذا الجزء بتأملاتٍ في ثمن الحرية ومرارة الذكريات، حيث تظلُّ صور الظلم والقضبان حاضرةً كشاهدٍ على وحشية النظام، لكنها أيضاً تتحول إلى رمزٍ لفخر أولئك الذين رفضوا الانكسار، رغم سنوات الظلم التي أضحت تُزيّن صدورهم كوسام.

ـ الجزء ١٦ والأخير :
بعد خروج الراوي من السجن، يعبّر عن تناقض مشاعره بين فرحة التحرر ومرارة ذكرى الأحكام القاسية على زملائه. يُلاحظ استمرار تعامل الإدارة معه كقائد للمجموعة حتى لحظة الإفراج النهائية، حيث يصف التفاصيل الدقيقة لخروجه وكيفية استقبال نسائم الحرية. قرّر مع رفاقه توثيق اللحظة بصورة تذكارية في وسط المدينة، لكنّ ظهور والده بابتسامة مُطهّرة للأسى، وقلق أمه، يدفعه للتوجّه مباشرةً إلى المنزل، حيث يلتقي بوالدته المتلهّفة وأقاربه المُحيطين به.
في الأيام التالية، يعود إلى وسط المدينة لاستعادة ذكرياته، وينقذ عجوزاً من حادث مروري، ليتعرّف عليه القاضي سائق السيارة الذي كاد يصدم العجوز والذي حكم عليه سابقاً. تنتهي الرحلة بكتابة قصيدة تُلخّص معاناته في السجن، تصف قسوة الظلم ووحشة القضبان، لكنها تنتهي بلمحة أمل تُشبه “فتية الكهف” الذين خرجوا من الظلمات إلى نور الحياة الجديدة، مؤكداً على صموده وارتباطه بإيمانه ورؤيته لمستقبل يزهر بعد سنوات القمع.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here