قراءة لقصيدة (لا تسخري من طهري المأفوك) للشاعر الكبير زياد بنجر ــ ظميان غدير

0
13

 

لا تَسْخري من طُهريَ المأفوكِ

لا أدَّعيهِ ولا أُجِلُّ سُلوكي

 

نسبُوهُ لي فَغَدوتُ من أعبائِهِ

أَغْشَاهُمُو كَالتَّائهِ المَنْهُوكِ

 

لَوَدِدتُ لو جُنِّبتُ حُسنَ ثنائِهمْ

وسُللتُ من وَشْيٍ عَليَّ مَحُوكِ

 

يا طُهرُ ما أشرقتُ شَمسَ وَضاءَةٍ

كَلاَّ ولا أمْسَيْتُ بدرَ حُلوكِ

 

وإذا أريبُكِ واقفاً فَلَطالمَا

سُقتُ اللُّهامَ وعُدتُ بالمَدْمُوكِ

 

ها إنَّ قلبي لا يُحرِّكُ سَاكناً

حَمِدَ السَّلامةَ في جِوارِ النُّوكِ

 

رَغِدَ التنحُّلُ يا قصائدَ عِزِّنا

ما ضَرَّ لو بالغَضْبَةِ انْتَحَلُوكِ

 

مَنْ يا فضيلةُ لُحْتِ في أبراجِهِمْ

زَعَمُوكِ مَنزِلةً وما اعْتَقَدُوكِ

 

سَاقُوا خيولَ الفجرِ من إظلامِهم

والجُبْنُ غرَّدَ بالدَّمِ المَسْفوُكِ

 

وعلى صَليلِ سُيوفِهمْ سُلَّ الأذى

يَخْتالُ فوقَ بَريقِها المَسْبُوكِ

 

ما عَرَّفَ الكَذَّابُ أَنكرَ قلبُهُ

يَعْرى ويَأْثَمُ والإهابُ مُلُوكي

 

شَحَّتْ خَلائقُنا فما مِنْ هاطِلٍ

عَذْبٍ ولا من مَنْهَلٍ مَعْروكِ

 

من قُمتَ في نُصحٍ لِتحفِزَ هِمَّةً

نُؤْ بالخِضَمِّ عنِ الفَتى المَشْبُوكِ

 

حَيَّتْكَ مَرْغَمَةٌ ونَبْذُ عَزائمٍ

والفَخرُ لاذَ برُكنِهِ المَدْكُوكِ

 

فَتولَّ عنكَ وما تَبيَّنَ ضعفُها

واسْتَيْقَنَتْ ما الدَّاءُ بعدَ شُكوكِ

 

وأرِحْ فؤادَكَ يا عِتابُ وقُمْ بِنا

نَصِفِ العُلا ونَفِرَّ كَالصُّعْلوُكِ

 

قراءة لقصيدة ( لا تسخري من طهري المأفوك)

للشاعر الكبير / زياد بنجر

 

لا تَسْخري من طُهريَ المأفوكِ

لا أدَّعيهِ ولا أُجِلُّ سُلوكي

 

بدأ القصيدة الشاعر بأسلوب الحديث للمرأة وهي هنا جارة أو أخت أو زوجة

بنفس أسلوب العرب للدخول في القصيدة كقول جرير :

 

أقلي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبتُ لقد أصابا

 

أو قول الشاعر أعشى همدان لعرسه :

 

قالَت تُعاتبُني عِرسي وَتَسأَلُني

أَينَ الدَراهِمُ عَنّا وَالدَنانيرُ

 

فَقُلتُ أَنفَقتُها وَاللَهُ يُخلِفُها

وَالدَهرُ ذو مَرَّةٍ عُسرٌ وَمَيسورُ

 

، وقد يستخدم هذا الاسلوب أيضا الشاعر غير المتزوج لأنه أسلوب فني فلقد قال أبو نواس ولم يكن متزوجا :

 

دعيني أكثر حاسديك برحلة

إلى بلد فيه الخصيب أميرُ

 

وشاعرنا هنا يطلب ممن يحدثها أن لا تسخر من طهره المأفوك الذي لا يدعيه وهذه إشارة لتواضعه ومعرفته بحقيقة نفسه وأيضا إحساسه العميق بأن من يخاطبها أيضا تعرف بحقيقة نفسه وجوهره تماما كطريقة الشعراء الأوائل في الدخول للقصيدة.

 

نسبُوهُ لي فَغَدوتُ من أعبائِهِ

أَغْشَاهُمُو كَالتَّائهِ المَنْهُوكِ

 

وفي البيت الثاني يتعامل الشاعر مع الإطراء والثناء المنسوب إليه كأنه عبء وحمل ثقيل فشاعرنا يشعر بما يشبه تأنيب الضمير بسبب هذا الثناء وهو الأعلم باسرار نفسه، ولقد أبدع الشاعر بتجديد الصيغة الشعرية لهذا المعنى وأيضا التصوير فالمعنى موجود في بيت شعر مشهور لكنه معنى مباشر حيث يقول الشاعر:

 

يظن الناس بي خير وإني=لشر الناس إن لم تعف عني

 

وسبب تفوق بيت شاعرنا على البيت العربي القديم هو في تصوير الثناء كأنه حمل ثقيل وقد أوصل المعنى المطلوب دون التصريح

 

لَوَدِدتُ لو جُنِّبتُ حُسنَ ثنائِهمْ

وسُللتُ من وَشْيٍ عَليَّ مَحُوكِ

 

ويظلّ في نفس المعنى في البيت الثالث لكن يتفنن في التصوير مرة أخرى فيشبه الثناء كأنه ثوب محوك موشى ويود التهرب من هذا الثوب ليكون صادقا مع نفسه فهو لم يرض ثوب المديح الموشى بثناء غير مستحق ويشعره بالزيف وهذه إشارة أخرى لصدقه مع نفسه ومحاسبتها ومراقبتها وإن كان كثير من الناس يُنخدع بالمديح حتى ينسى حقيقة نفسه ويعيش واهمًا.

 

يا طُهرُ ما أشرقتُ شَمسَ وَضاءَةٍ

كَلاَّ ولا أمْسَيْتُ بدرَ حُلوكِ

 

وهنا يكلم الطهر الذي كان في البيت الأول وهو ذلك الطهر المزعوم فيقول أنت لا شمس طلع في النهار ولا بدر في ليل مظلم حالك كأنه يريد بذلك معاتبة نفسه عن طريق خطابه للطهر وقد أحسن التجريد في الأبيات الثلاثة الأولى وأوصل ما في نفسه دون أن يخبر بشكل مباشر فاستخدم مرة أسلوب الحديث للمرأة الموثوقة التي يحدثها الشعراء كعرف فني كما أسلفنا ومرة أخرى بالحديث للطهر.

 

وإذا أريبُكِ واقفاً فَلَطالمَا

سُقتُ اللُّهامَ وعُدتُ بالمَدْمُوكِ

 

وهنا يستمر شاعرنا في تعنيف نفسه ومحاسبتها ويعترف بأنه ساق اللهام وهو الجيش العظيم وعاد بالمدموك إشارة للخسائر، وكل هذه إشارات للوم النفس على التفريط، وكأنّ سيل المديح والثناء دائما يشعره بمسؤولية وهو خلاف ما يقال وعكس ما يظن الناس فيه، ولا يستطيع إنكار الذات بهذه الطريقة والقسوة إلا صاحب نفس كريمة صادقة فإنكار الذات صعب خاصة حينما تكون محاطا بالمادحين وقد وصف نفسه بقائد الجيش المهزوم لكنها هزيمة في معارك الأخلاق والمبادئ وهو صادق في التعامل معها غير منافق أو مدّع أو باحث عن أعذار.

 

ها إنَّ قلبي لا يُحرِّكُ سَاكناً

حَمِدَ السَّلامةَ في جِوارِ النُّوكِ

 

وفي هذا البيت انتقل الشاعر لمعنى جديد وهو أنه لا يستجيب للمؤثرات الخارجية ولا يتفاعل معها فهو قبل بأبيات كان مع أشخاص يحسنون الظن به ويمدحونه ولكنه في هذا البيت مع النوكى والحمقى وهو لا يريد التعامل معهم، فهو إن كان يتفاعل مع ثناء الأشخاص بشكل إيجابي مع نفسه ويعود إليها ليحاسبها فهو مع النوكى يكتفي بأنه يحمد سلامة قلبه ولا يقابلهم بحمق أو سفه.

 

رَغِدَ التنحُّلُ يا قصائدَ عِزِّنا

ما ضَرَّ لو بالغَضْبَةِ انْتَحَلُوكِ

 

وهنا يشيرُ شاعرنا لمن ينتحلون قصائد الفخر ويتوسعون في معانيها فاخرين ومدعين للفخر الواهي الذي لا حقيقة له في الواقع، وبقوله: ما ضر لو بالغضبة انتحلوك فهو يسألهم أن يحولوا ذلك الفخر إلى غضب وغيرة على الحال التي نعيش وليت ذلك الشعور بالاعتزاز يتحول أو ينتج مشاعر غضبة وغيرة لما نعيشه في واقعنا من هوان ومذلة فهو بهذا يؤكد أن فخرهم غير مبرر وهو مجرد استعراض وادعاء، ويرى ذلك ليس عادلا فهم يأخذون من الشعر أحسن ما فيه من مشاعر العزة والفخر ويتركون الغضبة كي ينتفوا من المسؤولية تجاه المخازي.

 

مَنْ يا فضيلةُ لُحْتِ في أبراجِهِمْ

زَعَمُوكِ مَنزِلةً وما اعْتَقَدُوكِ

 

وهنا تعريض صريح بهؤلاء القوم المنافقين لأنهم من بعدما انتحلوا المعاني الجميلة والفاضلة زعموها لأنفسهم رغم أنهم لا يؤمنون بها ولا يعتقدونها وذلك دليل وضاعتهم وخسّتهم.

 

سَاقُوا خيولَ الفجرِ من إظلامِهم

والجُبْنُ غرَّدَ بالدَّمِ المَسْفوُكِ

 

وخيول الفجر هنا إشارة لتلك المعاني الشريفة فهم أخذوا تلك الخيول الأصيلة خيول الفجر إشارة للعزة والكبرياء، وما كانوا ليسرقوها ويدعوها إن لم يكونوا محتاجين للفجر والنور فهو كما قال ( من إظلامهم) فهم في ظلام وضلة ووضاعة ومذلة وهم رغم ذلك جبناء يتجاسرون على الدم المسفوك ولكنهم لم يحضروا المقتلة ولم يخوضوا معركة أخلاقية بشرف.

 

وعلى صَلَيلِ سُيوفِهمْ سُلَّ الأذى

يَخْتالُ فوقَ بَريقِها المَسْبُوكِ

 

يقول صليل سيوفهم وتلك إشارة للأصوات ومن بعدها يقول سل الأذى وهذه دلالة على أن فخرهم كان صوتيا كلاميا وكانت أقوالهم مقصدها الأذى وهم يختالون ويفخرون تحت بريق تلك السيوف فهم مدعون وكاذبون ومنافقون.

 

ما عَرَّفَ الكَذَّابُ أَنكرَ قلبُهُ

يَعْرى ويَأْثَمُ والإهابُ مُلُوكي

 

وفي هذا البيت استخدم أسلوب المقابلة كمحسن بديعي فقابل التنكير والتعريف وأفاد بذلك أن ما قاله ذلك الكذاب ينكره قلبه ولا يعتقده حقا وهذا يدعم الأبيات التي كانت قبل هذا البيت بأنهم يقولون ما لا يعتقدون ويقولون كلاما غير الذي في قلوبهم فهو نفاق محض.

 

شَحَّتْ خَلائقُنا فما مِنْ هاطِلٍ

عَذْبٍ ولا من مَنْهَلٍ مَعْروكِ

 

وهنا يغير شاعرنا أسلوب الخطاب ويجعل نقده وهجاءه عاما حين قال ( خلائقنا) فهو شمل الجميع كأنه يعاتب نفسه ويعاتب أهل الزمان بالشح الأخلاقي وضحالة موارد النبل وندرتها. وقد صور الأخلاق بطريقة غير مباشرة بأرض قفر خالية من المناهل والجداول وأيضا صور السماء أنها لا تمطر ولا تهطل دون ذكر السماء ودون التطرق لها وفي ذلك اقتدار وتمكن واضح على الإشارة والتلميح.

 

من قُمتَ في نُصحٍ لِتحفِزَ هِمَّةً

نُؤْ بالخِضَمِّ عنِ الفَتى المَشْبُوكِ

 

وفي هذا البيت يقول أنت يا من يجهد بالنصيحة ليحفز الهمة ويدعو للمعاني النبيلة اذهب للفتى المشبوك وهو ذلك الدعي الفاخر من غير عمل، عليك به هو وناصحه واجتهد في نصيحته.

 

حَيَّتْكَ مَرْغَمَةٌ وَنَبْذُ عَزائمٍ

والفَخرُ لاذَ برُكنِهِ المَدْكُوكِ

 

وهنا بهذا البيت يعود للفتى المشبوك ليقول له أن المرغمات تحييه وتستقبله وأيضا نابذات العزائم التي هي إشارة لقلة الهمة لدى الفتى المشبوك، وأشار بالشطر الثاني لفخر هذا الفتى رغم فتور وضعف عزيمته لكي يصور لنا أن فخره ادعاء، هذا الفتى المشبوك الذي ظلّ يزخرف شعره بالفخر وصوّر شاعرنا أنه يلوذ بركن من الفخر ضعيف مدكوك وهذه سخرية واضحة منه.

 

فَتولَّ عنكَ وما تَبيَّنَ ضعفُها

واسْتَيْقَنَتْ ما الدَّاءُ بعدَ شُكوكِ

 

وفي هذا البيت حديث عن غائب بقوله ( فتول عنكَ) ومن تولى عنه يكون العزم المذكور في البيت الذي قبل ولقد نفى عن الفتى المشبوك الضعف لأنه لم يتبين ضعفه لكن أشار لسبب عدم تبيان الضعف وهو الداء الذي في نفسه ولا شك أنه يتكلم عن مرض القلوب حتّى صور لنا صاحب العزيمة الضعيفة بأنهم مرضى نفسيون أو مرضى في قلوبهم ولهذا ينتهجون الأساليب الرخيصة من انتحال قصائد وادعاء فضيلة ليست بهم.

 

وأرِحْ فؤادَكَ يا عِتابُ وقُمْ بِنا

نَصِفِ العُلا ونَفِرَّ كَالصُّعْلوُكِ

 

وفي البيت الأخير يخاطب الشاعر نفسه وفؤاده ويطلب منها الكف عن العتاب وأن تشتغل بعلوها وسموها، وشبه العلا هنا بالغنائم المنهوبة التي تنتهب في الغارات لأنه أشار بعد ذلك للفرار فرار الصعاليك خاصة وبذلك يكون استطاع شاعرنا أن يصور مشهد الغزو والغنيمة بربع بيت ( ونفرّ كالصعلوك) وما هذا إلا دليل اقتدار وتمكن ومعرفة تامة بدلالة الكلمات وقدرة على الإيحاء والامتاع.

 

وكلّ القصيدة اعتمد فيها أسلوب التجريد والإشارة دون أن يتطرق لمن يهجوه وكأنّه اختار أن يكون الهجاء والنقد عاما لا متعلقا بشخص وذلك يدل على أنه يريد أن يعرض تجربته الإنسانية للقارئ دون أن يخصصها ويتشارك بذلك مع القارئ تجاربه ومبادئه وكل ذلك بِأسلوب فني راق قلّ نظيره.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here