ها أنت تسافرين، اتخذتِ قراركِ في غفلة من الجميع، جمعتِ كل شيء جميل يربطني بك، حتى الألواح التي كنت أشتم منها رائحتك دفنتِها في المدفأة ليلا، لم أعد أشعر بسحر الفن يغطي بهو البيت، يا الله الموسيقى لم يعد لها طعم كالسابق، والحياة لم تعد هي الحياة، كل ما يجمعني بك هو خيط الذكريات..
أَتذْكُرينَ.. عندما أقسمت لي ذات مساء جميل، بكل ما تملكين من إحساس، أنكِ ستأخذين بيدي، آنتِ من قال لي: أنت ستكون “كاتب المستقبل”، وأنا صدقتك كالمغفل وركبت الأمواج دون حذر، كتبت ألف قصيدة وقصيدة وأنا دائما في الأسفل..
ها هي قصيدتي الأخيرة، عنوانها “الأغنية الأخيرة” أهديها لك، أعرف جيدا أنك لن تقرئيها، لأنك لم تؤمني يوما بجدوى الشعر.
أنا نفسي، أتساءل دائما في ماذا يصلح الشعر؟ ألم يكن من الأجدر أن نتخلى عنه نهائيا ونبحث عن بديل غيره؟ أليس العالم يتغير؟ أليس كل شيء من حولنا يتغير؟
حبيبتي كانت لا تؤمن سوى بالشعر، كانت تقول لي: “الإنسان لا يولد على الفطرة وإنما يولد على الشعر”، وهي الآن تتركني وحيدا، محاطا بركام من الأوراق المتناثرة، من القصائد المضروبة، اليوم أيقنت أنها لا تطيق أن تقضي بقية عمرها بمملكة الشعر.
وماذا عن حُبها لي؟ ألم يكن قصة حقيقية؟
لا زلت أتذكر يوم التقينا أول مرة، كانت تلبس سروالا “دجينز أبيض” كحمامة تتحرك بقرب نافورة ماء، كل شيء فيها جميل، أحببت ضحكتها من النظرة الأولى كان وجهها يقطر من الحياء، تتكلم بصوت منخفض، فتزيد من اضطرابي، المرأة دائما في أول لقاء لها بالرجل تكون مثيرة، وأكثر ما أثارني فيها هو لغتها الشعرية، هل الرجل فعلا يحب المرأة لجسدها أم للغتها الراقصة في عوالم الرومانسية؟
“أنت رومانسي جدا”، قالت لي وهي تبتسم، وهل فعلا أنا كذلك؟ ربما أحاول أن أتظاهر بذلك لمعرفتي المسبقة أن النساء يعشقن هذا النوع من الرجال، وما العيب في أن ألعب هذا الدور من أجل أن أفوز بقلب هذه المرأة الساحرة؟ فما الحياة إلا ظل يمشي، مثل مسكين يتبختر ويستشيط ساعة، على حد تعبير شكسبير في رائعته “مكبت.”
كانت تُصَدِقُ كل شيء أقوله لها، ألا أقول الحقيقة؟ ألست كاتبا؟ ألا يبحث الكاتب دوما عن الحقيقة؟ وهل فعلا كنت أقول الحقيقة؟ الكُتاب لا ينطقون بالحقيقة إلا عندما تخدم مصالحهم الشخصية، إن الكاتب هو أكبر برغاماتي ضمن هذا الكم الهائل من المخلوقات.
كان عليها فعلا أن تصدقني، إنني أكبر مخترع لكلمات الحب، التاريخ لا يعترف سوى بالمخترعين، ولكل ميدان بطله، ولكل بطل ضحاياه، هكذا يقرأ التاريخ، لكن المفاجأة أنني كنت أول ضحايا هذا الاختراع العجيب.
أنا بدوري كنت أصدقها في كل شيء، لأنني كنت أعتقد أنني متحكم في الوضع، كنت أعتبر دائما أن حبيبتي تشبه القصيدة، وأنا أعرف جيدا كيف تبنى القصيدة؟ عالم بأبوابها السرية، أدخل وأخرج متى أشاء، كل مفاتيح البيوت بيدي، لكن مفتاح قلبها هل كان بيدي؟
كانت مخلصة مند البداية في حبها لي، هكذا كان يبدو لي، هكذا كنت أريد، وأي رجل لا يطلب من المرأة سوى الإخلاص، ما أتعس الرجل منا، يطلب الشيء ولا يستطيع أن يتحمله.. المرأة مند اللقاء الأول تحاول أن تظهر للرجل أنها مخلصة، من أجل أن تفوز بثقته، وهو دور تتقنه المرأة بشكل جيد عبر التاريخ، هل هذه هي الحقيقة؟ المرأة لا تكون مخلصة سوى للرجل القوي.. وأي امرأة تسألها كيف ما كانت طبيعتها عن تعريفها لهذا الصنف من الرجال تجيبك على الفور، أن قوة الرجل في جيبه وليس في لغته وقصيدته.
وهل كنت مخلصا لها مند أن عرفتها؟
قالت لي يوما: “اسمع أنا أقرأ في عينك كل شيء”، كل شيء، بما فيه الذي لا تستطيع أي امرأة تحمله.. تجاهلت الأمر بابتسامة مصطنعة، كانت هي تعلم وكنت أنا لا أعلم..