كثيرون من محبي اللغة العربية ومجيديها وأصحاب النبرة العالية في الحديث بها حَجَّموا الإبداع في الفخم منها، وربطوا ذلك بضرورة التقوقع في القالب اللغوي تارة، وفي القالب الموسيقي تارة أخرى، ورفضوا حتى مجرد التفكير في الخروج خارج حدود هذه الغرفة، حتى وإن كان الظرف الأدبي أو الحياتي غير محتاج لهذه الفخامة وهذا الجرس، فانغلقوا على أنفسهم وأغلقوا أبوابا عدة كان من اليسير أن يَلِجُوها، فاتحين بها آفاقا ومنعطفاتٍ وعصفا في سبيل خدمة الفكرة، وكان محصلة ذلك أنهم أَضروا وأُضروا.
وكثيرون أيضا هم الذين لم ينفتحوا على اللغة الفخمة، فتبسطوا حد الخلل، وراحوا يبنون إبداعهم بشيء من يسير اللغة ومحدودية الإتقان، وانتفاء الجرس والموسيقى، أو حتى مجرد الإيقاع الداخلي والخارجي، والتبسط ربما عن عدم قدرة معرفية أو ربما عن عداء (نعم عداء) للغة وهم كُثْر، فقدموا إبداعا أو كتاباتٍ هشَّةً وهؤلاء غالبا ما وقعوا في التكرار الهش، كما وقع أصحاب الفريق الأول في التكرار الفخم، وكلاهما أضرَّ وأُضر.
أما الذين تعاملوا مع اللغة على أنها الأداة، والبوصلة، والدَّفةُ، وقصَّاص الأثر، وعجلة القيادة، التي يصلون به إلى الهدف الأخير، وعلموا أيضا أن الإطار (الكاوتشوك) ليس هو الذي يحمل السيارة بل الهواء الذي يملأ هذا الإطار. هؤلاء استطاعوا أن يمتطوا فرس اللغة إلى حيث الهدف مباشرة، فكانوا أسرع وصولا، وأصدق عاطفة، وأعظم احتكاكا وتوهجا، ولمسوا مع الواقع المعيش والإنساني الآني دون أن ينفصل المتلقّي عنهم، ودون أن ينفصلوا هم عن المتلقّي.
بل واستطاعوا أن يخلقوا كيمياءَ متجانسةً بينهم وبين المجتمع وقضاياه، فتفردوا وتجاوزوا، وأصَّلوا، وقادوا، وصارت لهم وبهم مدارس جديدة، بل ومفرداتٌ تُصكُّ باسمهم.