السرقة الشعرية “المفهوم وآليات الاشتغال في النقد القديم” __ الدكتور المختار حسني

0
103

 

تتناول دراستي الآتية (في حلقات) مفهوم السرقة وآليات اشتغالها لدى النقاد العرب بدءا بابن سلام وانتهاء بحازم القرطاجني.

////////////

السرقة الشعرية

المفهوم وآليات الاشتغال في النقد القديم :

 

…………………

السرقة: من «سرق الشيء يسرِقه سَرَقا وسَرِقا…والاسم: السَّرِق والسرقة بكسر الراء فيهما… والسارق عند العرب من جاء مستترا إلى حِرز فأخذ عنه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن مَنَعَ مما في يديه فهو غاصب»( ). فالسرقة لا تطلق إلا على عملية «أخذ مال معتبر من حرزِ أجنبي لا شبهة فيه خِفيَةً وهو قاصد للحفظ، في نومه أو في غيبته»( )، وحدُّه في الشريعة قطع اليد، إذا بلغت قيمة المال المسروق مقدار عشرة دراهم، وهناك من يرى حد القطع في أقل من ذلك( ). أما “السرقة” بصفته مصطلحا مهاجرا إلى مجال الأدب عموما، والشعر على الخصوص، فهو أن ينسب الشاعر شعر غيره أو مضمونه إلى نفسه( ) ويسمى سارق الشعر سراقة( )، وهي وإن كانت من جنس سرقة المال معفية من القطع، وهي أفضل السرقة كما كان يقول الفرزدق: «خير السرقة ما لا يجب فيه القطع، يعني سرقة الشعر»( ). وقد تتبع د. الشاهد البوشيخي ورود هذه الكلمة في نصوص الجاهليين والإسلاميين فوجد أنها: «لم يُوقَف لها على ذكر لدى الجاهليين»( ).

أما قول د. بدوي طبانة بأن طرفة بن العبد هو أول من استعملها في قوله [البسيط]:

ولاَ أَغِيُر عَلَى الأشْعَارِ أَسْـــــرِقُهَا عَنْها غَنِيتُ وشَرُّ النَّاس مَن سَرَقا( )

فلا يصح الأخذ به، لأن هذا البيت ورد، مع آخر ثان، في ديوان طرفة وهو:

وَإِنَّ أَحْسَنَ بيتٍ أَنْتَ قَائِـلُه بيتٌ يُقَال- إذا أنشـَــدْتَهُ- صـَــدَقا

ضمن الشعر “المنسوب” للشاعر( )، كما أن هذا البيت الثاني يوجد في زيادات شعر حسان بن ثابت برواية و”إن أَشْعَرَ” مع بيت آخر سابق عليه وهو [البسيط]:

وَ إِنَّـما الشِّــعـرُ لُبُّ المرْءِ يَـعْرِضُـه عَلَى المَجاَلِس إِنْ كَيْساً وَإِنْ حُمُقَا( )

وأغلب الظن أن بدوي طبانة نقل، في هذه القضية قول غيره، فقد ورد هذا الرأي لعبد الرحيم العباسي في (معاهد التنصيص)، قال يذكر السرقة «وأول من ذم ذلك طرفة بقوله:…»( ) وساق البيت أعلاه.

ومن النتائج التي توصل إليها د. الشاهد البوشيخي في تتبعه ذاك:

1.أن الشعر الذي يسرق لا يكون إلا جيدا

2.أن الشاعر المسروق منه أعلى درجة في الشاعرية من السارق

3.أن السرقة فاشية بين الشعراء( )

4.أن مصطلح السرقة عرف تطورا ملحوظا في الفترة المدروسة:

ا-من عدم الاستعمال لدى الجاهليين، إلى قلته لدى المخضرمين، إلى كثرته لدى الإسلاميين.

ب-من الاستعمال الفعلي لدى حسان والنابغة الجعدي، إلى الاستعمال الاسمي في نص الفرزدق( ).

ج-من الأخذ حرفيا إلى الأخذ مع ضرب من التحوير، ومن القبح المطلق لدى المخضرمين إلى القبح الذي يمكن أن يخالطه إحسان لدى الإسلاميين المتأخرين( ).

وقد تطورت مشكلة السرقات بعد ذلك حتى أصبحت من القضايا النقدية المهيمنة باستفحال الخصومة بين القدماء والمحدثين( )، وصارت على الخصوص، وسيلة من وسائل الحط من قدر شعر الخصوم وتجريده من سمات الإبداع في كثير من النقد المنحاز، كما نجد مثلا عند “مهلهل ابن يموت” في تعامله مع سرقات أبي نواس، أو عند “الحاتمي” في “حلية المحاضرة”، و”الرسالة الحاتمية”، أو عند “ابن وكيع” في “المنصف”…الخ. وربما كان هذا الانحياز في النقد، هو الدافع لبعض النقاد، والبلاغيين على الخصوص، لإعادة النظر في مشكل السرقات مميزين فيها بين عدة مستويات، باحثين لا عن الأصل الذي يستقي منه الشاعر( ) بل عن مكامن الجودة والرداءة في أخذه، ومواطن التشابه والاختلاف بين اللاحق والسابق( ). وقبل النقاد كان الشعراء واعين بتداول المعاني واعتماد اللاحق فيها على السابق، قال امرؤ القيس [الكامل]:

عُوجا على الطَّــــلل الْـــمُحِـــيلِ لَأَنــَّنا نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابنُ خِذَامِ( )

وقال عنترة :[الكامل]

هَلْ غـَـــــادر الشُّــعــرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ أَمْ هَــلْ عَــرَفْــتَ الــدَّارَ بـَـعْدَ تــَـــوَهُّـــمِ( )

وقال كعب بن زهير: [الخفيف]

مَــا أرانــا نـَــقُولُ إِلا رجــيعًا ومُـعادًا مِنْ قَوْلِنَا مَكْرُورا( )

ويرجع وعيهم إلى طبيعة البيئة الشعرية العربية التي كانت تعتمد على الرواية بمختلف طبقاتها وأغراضها( )، وأول هذه الطبقات، وأولاها بالتقديم طبقة الشعراء الرواة( )، وهم إما:

1- شعراء يلزمون شاعرا بعينه يحفظون و يروون عنه حتى تتفتح قرائحهم، فيكون لمحفوظاتهم أثر ما في إنتاجهم كما نجد في “المدرسة الأوسية” حسب نعت طه حسين( )؛ حيث نجد سلسلة متصلة من الشعراء يروي فيها الواحد عن الآخر، أستاذها الأول أوس بن حَجَر( ). قال أبو الفرج الأصفهاني في نسب جميل وأخباره: «جميل شاعر فصيح مقدم جامع للشعر والرواية، كان راويةَ هُدْبَة بنِ خَشْرَمٍ، وكان هُدْبَة شاعرا راوية لزهير وابنِه…و آخرُ من اجتمع له الشعر والرواية كُثَيِّر»( ).

2- أو شعراء لا يختصون شاعرا بعينه بهذه العناية فيروون كل ما يشاؤون من شعر غيرهم من سابقيهم ومعاصريهم كما فعل أبو تمام، فقد وعى من الشعر ما جعله قادرا على اختيار غرره وجمعها في اختيارات أشهرها “ديوان الحماسة”، و”الحماسة الصغرى” المعروفة أيضا ب “الوحشيات”، فهذه «الاختيارات تدل على عنايته بالشعر، وأنه اشتغل به، وجعله وُكْدَه وغرضَه، واقتصر من كل الآداب والعلوم عليه؛ وإنه ما فاته كبير شيء من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث إلا قرأه وطالع فيه، ولهذا ما؛ أقول: إن الذي خفي من سرقاته أكثرُ مما ظهر منها على كثرتها»( ).

وقد قال الفرزدق في هذا المعنى:[الكامل]

1-وهَبَ القَصائِدَ لي النَّوابِـغُ إِذْ مَضَـــوا وأبـُو يـَـــزيــدَ وذو الـقُــروحِ وجَـــرْولُ

2-والــفَحــلُ عَلْـــــــــقَـمـةُ الذي كانتْ لَــهُ حُـــلَـــلُ الـــمُــلـــوكِ كــلامُــهُ لاَ يـــُنْـحَلُ

3-وأَخُـــــــــــو بَـني قَــــــيـْس وهُنَّ قَــتَــلْـنَـــهُ ومُـــــــهـَـلْـهِــــلُ الــشُّـــعــَــــراءِ ذاك الأَوَّلُ

4-والأعْــــــــشَـيَـــانِ كلاهُـــــمـُا وَمُــــرَقِّـــــشٌ وأَخُـــــو قُـــضــاعـَـــةَ قَــولُه يُـتَــمَــــثَّــلُ

5-وأَخُو بَني أَسَــــــــــدٍ عبـيدٌ إِذْ مَـــــــضَى وأَبــُـــو دُؤادٍ قَــــوْلُـــــهُ يُــــتَـــنَــخَّــــلُ

6-و ابنا أَبي سُـــــــــــلْمى زُهَــــــــيرٌ وابـنُــهُ وابــــــنُ الـفُـــرَيْــــــعةِ حين جدَّ المِقْـــوَلُ

7-والـجَـعْــــــــــفَـــــــرِيُّ وكانَ بِشْــــــــرٌ قَــبْـلَـهُ لِي من قَــــــــصائِدِه الكــــــــتَابُ المُجمَلُ

8-ولَـقَــد وَرِثْــتُ لآلِ أَوسٍ مَـنـْـــطِـــقـاً كالسَّـــمِّ خَــــالَــطَ جانـِـبَـــيْـهِ الـحَــنْـظَـــلُ

9-وَ الحارِثِيُّ أَخُو الحِـــــــمَاسِ وَرِثْــتُــــهُ صَدْعاً كَما صَــدَعَ الــصَّـفـاةَ الـمِــعْـوَلُ

10-دَفَعــــــــــوا إِليَّ كـِتابهُــــــــــنَّ وَصِـــيَّـــةً فَوَرِثــــــــتُــــــهُــــنَّ كــــأَنَّـهـُـنَّ الْـجَـنــــدَلُ( )

فكأن الفرزدق يريد أن يقول بأنه لا يعجز عن القول في أي موضوع وأي موقف، مع هذا المحفوظ الواسع لشعراء مختلفة مواقفهم وأشعارهم ممن ينسج على منوالهم، ويستمد منهم ما يقتضيه الحال من “تمثل” أو “تنحل” أو “جد” أو “قذع” في الهجاء…على أن الأمر لا يقتصر على الشعر وحده كما يفهم من هذه الأبيات، فانفتاح الشاعر على جميع الثقافات أمر معروف تم التنبيه إليه في التراث النقدي العربي( )، واتخذ حسب تقسيم د. “محمد علي الرباوي” في رسالته الجامعية، مسارين؛ مسار «تعليمي يتضمن توجيهات النقاد للشعراء لتثقيف أنفسهم بما يلزم من شعر وأخبار وأحساب …الخ. والمسار الثاني معياري يتعلق بتنظيم استعمال هذه الثقافة، وطرق الاستفادة المحمودة وغير المحمودة من الآخرين»( ) مما يُدخل كثيرا منه في صميم التناص.

ونشير إلى أن هذا الوضع ليس قاصرا على العرب، وإن كانوا أشهر من غيرهم بالرواية، وإنما هو من طبع جميع الشعراء، بل إن أخذ اللاحق عن السابق من طبيعة كل إنتاج بشري، إذ لا يمكن الانطلاق من فراغ. وفي هذا الموضوع، وفي ما يشبه ما أشرنا إليه أعلاه من وعي الشعراء بأهمية إنتاج بعضهم بعض، والانطلاق منه، تقول “جوليا كريستيفا” في فقرة بعنوان “الخطاب الخارجي[الغريب] في فضاء اللغة الشعرية: التناص وجناس القلب” ( ): «إن الممارسة الشعرية التي تربط بين “بو POE” و”بودلير BAUDELAIRE” و”مالارمي MALLARME” هي من بين الأمثلة الحديثة الأكثر وضوحا لهذا التلاقي المتحول للخطاب )Alterjonction discursives ). “فبودلير” يترجم “بو”، وملارمي يكتب قائلا بأنه سيستأنف المهمة الشعرية وارثا لبودلير، فكانت كتاباته الأولى تقتفي أثر هذا الشاعر، كما أنه ترجم أيضا ل”إدغار ألان بو” وحذا حذوه في كتاباته. و”بو” بدوره ينطلق [في ما يكتب] من دوكينسيDE QUINCEY…ومن الممكن أن تتضاعف الشبكة لتؤكد، دائما، نفس القانون؛ وهو أن النص الشعري يتم إنتاجه ضمن الحركة المعقدة، الجامعة، في نفس الوقت، بين إثباتٍ ما ونفيٍ ما لنص آخر»( ). وهذا ما وعاه النقاد أيضا، عربا كانوا أو غير عرب( )، بيد أن مهمة النقد تأتي دائما بعد تراكم النصوص وما تطرحه من إشكاليات، وبعد استكمال الآلة القادرة على فعل المقاربة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع كموضوع السرقات، فقد: «وعى النقد العربي الصعوبات الجمة التي تعترض كل من حاول دراسة هذا الموضوع؛ فاشترط فيمن رام ذلك حصافة في الرأي، وتمكنا من الأدوات؛ إذ السرقات باب لا ينهض به إلا ناقد بصير وعالم مبرز»( ).

___________________

هوامش :

– اللسان (سرق)

– الكليات، الكفوي؛ 514.

– التعريفات، الجرجاني؛ 156-157.

– كشاف اصطلاحات الفنون، التهانوي؛657.

–اللسان (سرق).

– مصطلحات النقد العربي 287 و- نصوص المصطلح النقدي، د. الشاهدالبوشيخي؛ 375.

– نفسه

– السرقات الأدبية د. بدويطبانة؛ 39.

– شرح ديوان طرفة؛ 174.

ديوان حسان؛1: 430.

– معاهد التنصيص؛ 4 : 7-8.

– قال الأخطل: «نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة» – مصطلحات النقد العربي؛ 289 – نصوص المصطلح النقدي؛ 396.

– وربما كان الاستعمال الاسمي دالا على ثبات المفهوم بما مر من الزمن.

– مصطلحات النقد العربي؛ 290-291.

– النقد المنهجي عند العرب، د. محمد مندور؛357-358.

– رأينا أنه من بين ما حرص عليه منظرو مفهوم “التناص” هو أن لا نكتفي برد النصوص الغائبة التي نكتشفها إلى أصلها.

– نقد الشعر عند العرب، د. أمجد الطرابلسي؛ 207.

– ديوان امرئ القيس 114.

– ديوان عنترة؛ 186.

– ديوان كعب؛ 123.

– تاريخ آداب العرب؛ مصطفى صادق الرافعي؛ 1: 271 وما بعدها.

– مصادر الشعر الجاهلي، د.ناصر الدين الأسد؛ 222.

– في الأدب الجاهلي؛267.

– نفسه.

– الأغاني؛ 91:8.

– الموازنة، الآمدي؛59:1.

– الفرزدق، كتاب النقائض لأبي عبيدة معمر بن المثنى 200-201. – الشرح : 1) النوابغ : الذبياني والجعدي والشيباني، أبو يزيد: المخبل، ذو القروح: امرؤ القيس، جرول: الحطيئة. 3) أخو بني قيس: طرفة. 4) والأعشيان: أعشى قيس وأعشى باهلة 6) ابنا أبي سُلمى: زهير بن أبي سلمى وابنه كعب –ابن الفريعة: حسان بن ثابت، 7)الجعفري: لبيد، بشر: ابن أبي خازم. 8) –آل أوس : أوس بن حَجَر، 9) الحارثي: النجاشي. [الشرح عن النقائض].

–كثير من كتب النقد القديم تعكس نوع الثقافة التي ينبغي للشاعر الإلمام بها. وهي ثقافة موسوعية تتصل بالمعرفة الشاملة، بصناعة الشعر وروايته وتاريخه، كما تتعلق بالمعرفة الدقيقة بالأنساب والأيام والخيل والفلك والأنواء والتقاليد…إلخ، وهذا ما يمثله على أكمل وجه كتاب العمدة لابن رشيق.

– الشعر العربي المعاصر بالمغرب الشرقي؛ 260-264.

– Sémèiotikè , recherches pour une Sémanalyse; 194.

– تعني الباحثة بهذا المصطلح ما ذكرته قبلُ من أن نصوص الحداثة(أو الطليعة) تتشكل عبر تلاقي وامتصاص، وفي نفس الوقت، عبر هدم وتحويل النصوص الأخرى التي تدخل إلى فضاء التناص فهي تلاق وتحويل في آن واحد. – نفسه؛ 196.

– نفسه.

– ينظر المقارنة التي عقدها د. محمد مصطفى هدارة في الفصل الرابع من كتابه (مشكلة السرقات في النقد العربي) بين النقاد العرب والأوربيين؛ 245 وما بعدها.

– نقد الشعر عند العرب؛ 205.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here