يوحي العنوان بأن للنساء صلاة خاصة مختلفة عن الصلوات المعروفة وكأنما كان لهن مذهب وشريعة وطريقة تميزهن عن كل المذاهب والشرائع الأخرى!
كيف تصلي النساء؟ يتبادر هذا السؤال إلى الذهن منذ البداية.. ويجعل القارئ في حالة تشويق مستمر وهو يجول بأطراف القصيدة ولا يهدأ له بال حتى ينهيها فلا يصح أن ندخل في صلاة ما ونتركها قبل الختم.
بعض النساء كأنهن صلاة
وأنا وضوئي ماؤه الكلمات
يفاجئنا الشاعر وهو يشبه المرأة (الحبيبة) بالصلاة وهي أمر روحي مقدس ثابت يدل على أقصى درجات الإيمان والتعلق والتشبث بالمبادئ وبكل ما هو سام و نزيه وراق. ليست المرأة ذلك الجسد الجميل المليء بالإغراء والشهوة والفتنة بقدر ماهي تلك الروح الملائكية الطاهرة العذبة! وهي صورة جديدة عن المرأة لم نتعود عليها في شعر الغزل.. الشيء الذي يجعل تصنيف القصيدة صعبا وخصوصا أنها تناولت مواضيع متعددة. فالشاعر العاشق هو أيضا ليس بالشخص العادي، بل إنه” نبي” يسعى للاغتسال من خطاياه عن طريق الاعتزال والتأمل والحب.. وعن طريق الشعر فهو رسول الكلمات والمعاني وقيم الخير والجمال.
آوي لأغسل في حراء خطيئتي
فتمر فوق صخوري الآيات
اقرأ قرأت الحب أول دعوة
للأنبياء ورٍدّتي الإثبات
الحب هو أول وآخر دعوة للشعراء وهذا الأمر بديهي لا يحتاج لتبرير أو إثبات فهو أكثر قيمة ثابتة صادقة سامية في هذه الحياة.
لكن للأسف، يشعر الشاعر النبي بغربة تحول بينه وبين دعوته، فلا شيء يبشر بالخير، الموت حوله في كل مكان.. وقد يكون الموت الذي يتحدث عنه الشاعر حقيقيا بعد ارتفاع حالات الوفاة من جراء وباء كورونا الذي تفشى بشكل ملفت في بلده الأم الذي أتاه زائرا بعد طول غياب.. كما قد يكون مجازيا لأن أحمد حضراوي الذي يعيش في بلاد المهجر يشعر أنه غريب في وطنه الأصلي المغرب.
أمشي على سنن البشارة لا أرى
إلا قبورا حولها الشارات
ما بين طعم الطين أرسل قضمتي
في غربة شجراتها إفلات
يحاول الشاعر التمسك بالأصل ” الطين” وبجذور وشجرات هذه الأرض التي ولد وترعرع فيها لكنه لا يستطيع لأنها تخلت عنه وهي “غرة” وهنا يعكس الشاعر الصورة فهو لم يغادرها في ريعان شبابه إلا مضطرا ،كما الكثيرين من أبناء بلده.
هي بعض أوطان تخلت غرة
عني لتضمر بينها الطعنات
طعن أحمد حضراوي وهو يغادر موطنه الأصلي.. لكن الطعنات لم تتوقف لأن خيبات الأمل مستمرة ومتواصلة فلا شيء يشجع على الرجوع للوطن.
لا حطة ترجى ولا نار ترى
كل الحكايا أصلها الصفحات
لا شيء يشجع على إمكانية الاستقرار والبقاء، فشروط العيش الكريم غائبة أو مغيبة “لا نار ترى” وكل ما يروج له في وسائل الإعلام والكتب والصحف إنما هو أوهام وضحك على الذقون.
سالت يدي حتى تمدد ماؤها
هل في خرير أصابعي موجات
سالت يد الشاعر ” وهو يكتب” حتى تمدد ماؤها.. واليد والماء رمزا العطاء والسخاء والفيض والمحبة والرغبة في التواصل مع الآخرين واليد تدل أيضا على الرغبة في التغيير والتأثير والبناء والتقدم .. كما يرمز البحر من جهة أخرى إلى الإحساس بالغربة والتفرد والعزلة.
أنا ساحر في البحر أصنع خلوتي
وأنا ببر الحاقدين فراتُ
وبحر الشاعر هو أيضا بحر الكلمات والأشعار والمجازات التي لا تنتهي والتي قد لا يفهمها غيره بسهولة .و مع ذلك ينأى الشاعر بنفسه عن الصراعات والأحقاد التي لا يمكنه التوقف عندها أو إيلاءها أهمية تفوق حجمها، بل إنه يمر عليها كما يمر النهر الفرات العذب الذي لا تشوبه شائبة. فبالرغم من كل الكره والحقد المحيط به لا يزال الشاعر يشعر بالحب ويعشق لدرجة الموت. وأي موت؟ إنه موت متجدد يبعث منه في كل مرة ليعود إليه من جديد!
تبت يدا الحب الذي يغتالني
فإذا بعثت فبعثه موتاتُ
والحب هنا قد يقصد به الشاعر حب المرأة كما قد يقصد به حب الوطن الذي لا زال يخذله ويحطمه في كل مرة يعود إليه.
تبت يدا وطن يمد يداه لي
حتى تعانق أوبتي الدمعات
وكأنه قابيل يشحذ صخره
تذكي له نزواته الشهوات
إحساس بالسخط والظلم والقهر والألم هذا كل ما أصبحت تعنيه العودة للوطن، هذا الوطن الذي شبهه الشاعر بقابيل الحاقد على بني جلدته، وطن لا يتركك حتى يقتلك وكأن بينكما ثأر قديم!
وكأنني برك الدماء وليس لي
طير غراب زاده النقرات
لا وجود للغراب المخلص من الحيرة.. ولا عزاء للشاعر الذي يشعر بالإهانة وفقدان الكرامة وبأن لا مكان له ولا حتى قبرا يأويه في موطنه الأصلي..
قبري هناك فليس لي قبر هنا
لكمُ الحياة ولي هناك رفات
قبر الشاعر هناك رغم بعد ذلك المكان الذي يتوقع الموت فيه ورغم خلوه من شروط الحياة الكريمة، إلا أنه مضطر للبقاء فيه حتى النهاية لأن بلده الأم لفظه وتخلى عنه.
عاشت منافي الأرض لا الوطن الذي
هو ليس إلا خدعة وشتات
وهنا يعكس أحمد حضراوي الصورة بوضوح تام فيمدح المنفى ويذم الوطن، ذلك الوطن الذي يخدع ويشتت أبناءه ولا يوليهم أية أهمية.. ولعل النتيجة الحتمية لكل هذا هي إحساسهم بالبرود والجفاف العاطفي تجاهه:
لا بيت لي في الحب لا قبل ولا
أثر قديم بدؤه زلات
لا صدر يغزل في العناق حنانه
لا موسم في رسمه الضحكات
رغم الزيارات الموسمية النادرة لهذا البلد، تبقى الفرحة غائبة والإحساس بالأمان منعدم.. بل على العكس من ذلك يعاني الشاعر من خبث وانتقام هذا الوطن ومن كيده الذي فاق كيد الرجال ليتعداه إلى كيد النساء وما أدراك ما كيد النساء!
كل الحكاية يوسف وقميصه
لكنما إخوانه أخوات
ولقد أتت قوافي القصيدة المتوجة بالتاء الانفجاري المهموس لتعبر بدورها عن حالة الشاعر النفسية التي يظهر من خلالها ذلك التمزق العميق الذي يعيشه بين موطنه الأصلي الذي أصبح يعتبره منفى وبلد المهجر الذي استقبله وآواه رغم غياب روابط عديدة بينهما.
استهل أحمد حضراوي، إذاً، هذه القصيدة العصماء بتلك الدعوة إلى الحب، تلك الدعوة التي تذكرنا بمطلع القصيدة الغزلية الكلاسيكية.. إلا أن الطلل الذي يبكيه الشاعر هنا هو ليس مجرد ديار غادرتها الحبيبة وإنما هو وطن بأكمله ترك مواطنيه فتركوه وهجروه.