ربع قرن في سجون الجزائر البوليساريو ملحمة إدريس الزايدي :
“جورج حبش يصفعني والجزائر تعدم صحافيين” :
بعد أسابيع مضت علينا، جمعوا حوالي 750 معتقلا، للإعداد لحفل استقبال وفود أجنبية، وهي العملية التي كان يشرف عليها المدعو سيدي أحمد بطل وولد نافع.. وهلم عذابا في تلك الأيام السوداء التي كنا نضطر خلالها للتبول في كؤوس بلاستيكية هي ذاتها التي كنا نشرب فيها الماء. ولا يجب أن تتصوروا الماء كما يوجد في حنفيات المنازل، بل ماء عكر مختلط بالرمال. وإذا كان الحصول على الماء يعد عاديا جدا في الحالات الطبيعية فإن محاولة حصولنا عليه هناك يمكن أن تكلفنا أرواحنا، فالاقتراب من صهاريج المياه عملية خطرة جدا تتطلب إطلاق الرصاص علينا. من الوجوه العالمية القبيحة التي لا تكن حبا للمغرب، والتي طلت علينا هناك، وليد جنبلاط ونايف حواتمه ورموز من نظام حافظ الأسد، وعلي ناصر من اليمن، كانوا يؤلبون البوليساريو علينا. ومن الهدايا التي تلقيتها منهم صفعة من جورج حبش وقال لي “أنتم تحاربون الشعب الصحراوي إنكم أعوان إسرائيل”، وزاد “أنت يا ابن الحرام تحب إسرائيل”.
ولكني، بالمقابل، التقيت أبطالا مغاربة أحبهم وأجل قدرهم، وكان من بينهم علي نجاب، القبطان المغربي الأسير آنذاك وكان أول من حدثته في أمور السياسة. غافلت الحراس والتقيته وكان أول ما صنعت معه أن احتضنته وقبلته وقلت له : أخي إني مغربي، ولا تخف ولا تقلق فقضيتنا عادلة والصحراء لنا والجزائر خبرت صلابتنا ولا تنس أن لديها مسجونين في المغرب أسرناهم في المواجهات العسكرية. لكن نجاب ارتاب شيئا ما في أمري واعتقد أني من مخبري البوليساريو، وكان من حقه أن يصنع ذلك لأن المدسوسين كانوا يحاولون اصطيادنا في شراكهم. كان نجاب يسمع عني عندما يروج الحديث عن “ادريس القنيطري” دون أن يراني، لكن عددا من إخواننا الأسرى أكدوا له أنني فعلا القنيطري الذي كان يسمع به، فانشرح وأسر لي أنه لم يثق بي في البداية، ثم انضم إلينا فال بابا، وهو موريتاني صديق حميم لنجاب فأوصاه بالثقة بي. وكانت لي قصة سابقة مع فال حين أنقذته من حصة تعذيب رفقة موريتانيين آخرين أذكر منهم المختار ولد بيبا وعلي ولد مخيليل والسالك ولد الرباني والشيخ الناجي، كنا نشتغل في البناء فتعبوا حد الهلاك من فرط الجوع والانهاك فأدخلتهم في بيت صغير مظلم ليستريحوا، وكلما مر بي حارس يصفعني ويسألني من معك؟ كنت أجيبه أنه ليس معي غير رشيد، بينما كان الموريتانيون مختبئين، وهي القصة التي رووها لعلي نجاب وأثنوا علي كثيرا.
نقلوني إلى الرويضة لأمضي بها أربعة أيام، ومن هناك إلى الرابوني حيث التقيت كبار الجلادين مثل فيليبي وخطري ولد علي بويا والولي ومحمد سالم وميشيل وبيشة لعور، وضعوني في حفرة وحي إمعانا في قهري. بعدها استنطقني الجلادون بحضور عناصر من المخابرات الجزائرية وأخبروهم على مسمع مني أني من العناصر المغربية التي احتاروا في شأنها وحدثوهم عن تحريضي للسجناء فكان القرار “المناسب” هو تعليقي ثلاثة أيام، ليضعوني بعدها في زنزانة مظلمة حيث أنام وأبول وأقضي حاجاتي الطبيعية طيلة سبعة أشهر، وفيها تعرفت على وجه بشع يسمى إبراهيم محمود، الملقب كريكاو، وهو شقيق محمد الشيخ بيد الله، وزير الصحة المغربي الأسبق. كان عمر الحضرمي برفقة كريكاو يتفقدان السجن، سألوا عن سبب وجودي هناك فأخبره السجان لبيب أني أمضي العقوبة في انتظار قرار الجماعة بتصفيتي، فأجابه الحضرمي “الأفضل لنا أن نجعله يشتغل بدل قتله” فخرجت من الزنزانة بعد سبعة أشهر. أمرهم كريكاو بإعطائي ثيابا غير الأسمال المليئة بالقمل والبراغيث التي كنت ألف نفسي فيها أكثر من نصف سنة تحت الأرض.كان رفاقي السجناء يظنون أني توفيت أو قتلت، وكانت مفاجأتهم كبيرة لما دخلت عليهم بغتة، غسلوني بالماء الساخن وأطعموني وحلقوا شعري ولحيتي، وأزالوا مني القمل فتحسنت حالتي نسبيا، لكن السجان ميسى الأعور كان ينفذ تعليمات صادرة بتعذيبي ليل نهار.
نقلنا إلى المقاطعة السادسة، حيث الفيافي والقفار، وكان علينا بناء مدرسة عسكرية في وقت قصير تحت إشراف السجان الغزواني الذي لا يعرف سبيلا للرحمة، شأنه شأن لمخيطير، في غضون ذلك كانوا يقومون بعمليات تفجير أصيب خلالها الرشيد الذي يحمل سجن الرشيد السري اسمه، وهو المعتقل الرهيب الذي قضى به الصحافي المغربي محمد أحمد باهي سنوات طوالا وكتب عنه بدقة لما عاد إلى الوطن. بالمقاطقة السادسة مرض الكثيرون من ضعيفي البنية، ومات آخرون جراء الهزال والجوع مثل المرحوم الشريف، وكيف لا يموت الناس وقد حفرنا آبارا يصل عمقها 100 متر بغيران جانبية لينزل منها الناس لجلب المياه. أعادونا إلى الرابوني ثانية لردم حفر وبناء مساكن، هناك شهدت ما قاساه ميمون الزكاي والقبطان الطاهري على يد الجلاد عبد الله الذي كان يوفر لباقي السجانين والضباط الجزائريين الفرجة عن طريق التنكيل بنا. كنا رفقة الموريتانيين في المعتقل، لكن صعود محمد خونا ولد هيدلا إلى الحكم في موريتانيا وتوقيعه اتفاقية مع البوليساريو عجل بإطلاق سراح الموريتانيين وبقينا نحن المغاربة رفقة موريتاني وحيد احتفظوا به هو الشيخ الناجي الذي كان ضابط درك موريتاني قبل أسره، وكان يذيق البوليساريو الذل. جيء به إلى الرابوني، لمحته من بعيد ففهمت لماذا تم استثناؤه، سلم علي فنصحته بالصبر، وكان الشيخ غير راض عن الأوضاع في موريتانيا، وقال يوما : “يا ليتني كنت مغربيا حتى أعرف من أجل من أناضل”، فأجبته : “إنك مغربي والمرء مع من أحب”.كان مثالا للصبر والعناد في مواجهة جلادين من عيار خندود وعلي ولد لهديم والسويدي ولد وكاك والخليفة اليكوتي وعبد الودود وكينو وسويلم ولد الفيلالي، كانوا يعاقبون الرجل كما لو كان جملا بحضور محمد عبد العزيز زعيم العصابة.
ولم يكن زبانية عبد العزيز يصفون المغاربة فقط، بل طالت أياديهم الآثمة أيضا عددا من الصحافيين منهم يوسف، طويل القامة أشقر اللون، وهو عراقي الأصل أميركي الجنسية، كان يشتغل مترجما في الأمم المتحدة، وكان يهتم بقضايا الأفارقة فلاقى عذابا أليما قي سجن الدخيلة قبل أن يصفوه جسديا، وكان عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية الجزائري آنذاك، هو من أرسل يوسف إلى الجزائر وسهل إدخاله إلى البوليساريو لينفذ فيه الإعدام، ونفس مصير يوسف لاقاه صحافيان أحدهما إفريقي والثاني بملامح آسيوية، رأيتهما في دهاليز السجن وعلمت فيما بعد بقتلهما. وكانت التهمة جاهزة هي معاداة البوليساريو. وعلى العالم الذي يحارب الإرهاب أن يذهب إلى السجون السرية، ويعود إلى مذكرات الأسرى ليقف على جرائم عصابات إرهابية خلقت لتدمير المغرب العربي. أقول واثقا إن البوليساريو يتعاملون مع منظمات إرهابية.
كانت فلسفة المرتزقة تقتضي ألا نستقر على حال، وكان التنقيل يأتينا كيوم القيامة ليلا أو نهارا. وفي صبيحة يوم من أيام لا تنسى، شحنوا مجموعة منا أذكر منهم محمد أوشن، عبد السلام سيدي خير، والسارجان ميلود، والمكي التازي، ولحسن السواقي، ومحمد الموسطاج، والحسن الخلطي، والسي علال، ومحمد البعمراني، والعربي الملالي، الذي توفي تحت التعذيب، ومحمد البوخلدي الذي لاقى نفس المصير. أمرنا بجمع حاجياتنا، ثم وضعونا في شاحنة مغطاة مرفوقة بثلاث سيارات من نوع جيب، وساروا بنا إلى الناحية العسكرية الخامسة، ولما وصلنا استقبلنا علي الأطرش، الملقب الصمك بهذا الوعيد : «يا أبناء الكلاب، يا أولاد القحبة، هذه مقبرتكم إن قصرتم في العمل، وإياكم أن تذكروا المغرب على لسانكم». وأمثال الصمك كثيرون من أمثال ولد الراضي، وسعيد ولد المرخي، ومحمد ميليد، والمهدي كعبور، وولدة، وإبراهيم السوداني قائد المركز وهو من أصل جزائري من الشعانبة، وحمادة ولد باعلي قائد الناحية. كان علينا أن نعمل ونصمت، فالشكوى تعني الإعدام، نبدأ الأشغال الشاقة في صباح باكر، وننتهي في منتصف الليل، أكثر نشاطا من النمل كنا. أمرنا بحفر عشرين كيلومترا لتكون خط دفاع متقدم عن المركز، وبعدها تأتي مراحل العمل داخل المركز، تم العمل في ظرف عشرة أيام، داخل الأراضي الجزائرية، قبالة دبابات الفيلق العاشر للجيش الجزائري، جنوب تندوف. في المساء جيء إلينا ببضع حبات للأرز كوجبة عشاء.