Home Slider site قراءة في كتاب “أشعار الأنبياء ومزامير الكهنة” ١ – جواد يونس أبو...
أنهيت قراءة كتاب (أشعار الأنبياء ومزامير الكهنة: فاضل الربيعي) الذي يندرج ضمن سلسلة كتب للباحث العراقي في مشروعه الضخم: “إسرائيل المتخيلة”. ملخص هذا المشروع البحثي أن قصة بني إسرائيل، بدءا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق وليس انتهاء بداود وسليمان (عليهم السلام) حدثت في اليمن، وأن مملكة يهودا الجنوبية هي مملكة حِميَر اليمنية، ومملكة إسرائيل الشمالية هي مملكة سبأ، وأن مصر التي وردت في قصة موسى (عليه السلام) هي مملكة معين-مصرن في منطقة الجوف في اليمن، وفرعون اسم لأحد ملوكها لا علاقة له بملوك مصر النيل الذين لم تورد النقوش المصرية تلقبهم بلقب كهذا.
في هذا الكتاب يقدم الربيعي ترجمة عربية جديدة للنص العبري لعدد من الأشعار/الأناشيد التي وردت في (الكتاب المقدس) لكل من “الأنبياء الشعراء”: عاموس، وحزقيال، وإشعيا، وصموئيل.
يزعم الربيعي أن الترجمة العربية المتداولة لهذه الأشعار، شأنها شأن الكتاب المقدس كله، غير صحيحة. يدلل المؤلف على ذلك بأن أسماء معظم الأماكن في هذه الأشعار/ الأناشيد ليست في فلسطين، ويزعم أنها موجودة في اليمن كما وضح في الحواشي العديدة التي اعتمد فيها بشكل رئيس على كتاب (صفة جزيرة العرب : الهمداني).
بما أني لا أعرف اللغة العبرية التي أسعى حاليا لتعلمها، ولا أعرف جغرافية اليمن، فلا أستطيع الحكم على صحة/جودة الترجمة أو صحة مواقع هذه الأماكن.
لذا سأكتفي بالتعليق على بعض ما جاء في (المدخل)، وما أورده الربيعي حول الموضوع في بعض لقاءاته التلفزيونية بخاصة سلسلة حلقات “إسرائيل المتخيلة” مع المذيع باسم الجمل في فضائية الغد المصرية (أنصح بمشاهدتها على اليوتيوب).
هناك ملاحظة عامة على كتابات الأستاذ الربيعي تؤكدها لقاءاته التلفزيونية العديدة التي شاهدتها، وهي لغة الجزم التي يتحدث بها ويعرض بها آراءه. لا شك أن الثقة بالنفس، والثقة بالآراء مطلوبة بخاصة إذا جاءت بعد دراسة متأنية.
ولكن.. لسنا هنا أمام بحث في الرياضيات تستطيع أن تدعي فيه إثبات مبرهنة بما لا يقبل الشك، نحن أمام بحث من نوع آخر قد تكون فيه آراء متعددة لها وجاهتها. ولكن الباحث لا يكلف نفسه حتى عناء عرض الآراء المختلفة قبل ترجيح وجهة نظره، بل ولا يقدم أحيانا أي دليل على صحتها، حيث يعرضها كحقائق دامغة أو كمسلمات لا تقبل التشكيك. إن كان هذا مقبولا إلى حد ما في مقابلة مع فضائية ما، فهو غير مقبول في كتاب يعتبره صاحبه جزءا من مشروع بحثي عظيم له تداعيات خطيرة قد تقلب التاريخ المروي.
يبدأ المؤلف كتابه بعرض وجهة نظره حول ولادة الشعر كحقيقة مسلَّم بها، فيقول في أول سطر: “من منظور الأنثروبولوجيا التاريخية، ولد الشعر في المعبد الأول الذي أقامه الإنسان ليبتهل ويناجي خالقه”. ثم يستطرد ليقول: “ثم اكتشف تاليا أن الرقص خلال الطواف في المعبد، وترداد الكلمات والألحان، قد يجعلان من الصلاة أكثر قدسية وجمالا”.
فهل هذه حقيقة مسلم بها، وما الدليل على ذلك؟
بالنسبة للشعر العربي على الأقل، وبنو إسرائيل عند الربيعي قبيلة عربية والعبرية لهجة عربية قديمة، فإن من الآراء الوجيهة التي رجحها كثير من الباحثين أنه تطور من حداء الإبل، وهناك حديث ضعيف ورد فيه أن مضرَ الجد الـ17 للنبي (صلى الله عليه وسلم) كان أول من رجز الشعر.
وربما أخذ الربيعي بما قاله بعض الباحثين ومنهم المستشرق كارل بروكلمن الذي يقول: «ينبغي أن يكون أقدم القوالب الفنية هو السَّجعُ» ثم يقول: «والسجعُ هو القالب الذي كان يصوغ العرَّافونَ والكهنةُ فيه كلامَهم وأقوالهم كما جاء في القرآن».
ولا أرى ما يمنع الجمع بين الرأيين، وأرى أن الشعر العربي بالذات قد تطور من حداء الإبل وغناء الرعاة من جهة الذي أكسبه الطابع الغنائي، ومن سجع الكهان من جهة أخرى الذي أكسبه القافية والروي الموحد بشكل خاص.
ولا شك عند العارفين بالبناء المحكم لبناء بحور الشعر التي اكتشفها الخليل بن أحمد الفراهيدي وكشف عن بناء رياضي بديع للدوائر العروضية الخمس التي تنتظم هذه البحور فيها، أنه قد تطور عبر عشرات القرون حتى استقر على هذه الصورة البديعة، بعكس ما زعمه الجاحظ (المتوفى 868 م) الذي ذكر: “أَنَّ الشعرَ حديثُ الميلاد، صغيرُ السِّنِّ”، وغيره من العلماء الذين زعموا أن الشعر الجاهلي يعود إلى حوالي 150 سنة فقط، أي حوالي منتصف القرن الـ 5 الميلادي!
من أقدم الشعراء العالميين المعروفين “هوميروس” الذي كتب الملحمتين الشعريتين الشهيرتين: الإلياذة والأوديسة، وقد توفي في القرن الـ8 ق.م، ولا يعقل أن الشعر العربي قد تأخر عن الشعر اليوناني، فالعربية أقدم من اليونانية بكثير.
أما سبب عدم وصول الكثير من الأشعار قبل عصر امرئ القيس (توفي حوالي 540 م) والمهلهل بن ربيعة (المتوفى حوالي 531 م) الذي قيل إنه اكتسب هذا اللقب لأنه أول من هلهل الشعر ورققه، فقد تكون له عدة أسباب، منها:
– أنه أُنشد بلغات عربية قديمة اندثرت مع الزمن أو قل استعمالها.
– عدم انتشار الكتابة والقراءة بين العرب قبل الإسلام.
– لم يكن الشعر في بداياته على البحور المعروفة حاليا، ولا يخفى على أحد أنه كان لهذه البحور بما تضمنه من موسيقا عالية، وللشكل العمودي المميز للشعر العربي، وللروي الموحد للقصيدة العربية الأصيلة، دور كبير جدا في تسهيل حفظ الشعر وسرعة تداوله.
وربما ستكشف لنا الحفريات في المستقبل نقوشا لقصائد قديمة، كما كشف لنا “نقش عبدة” الذي يرجع إلى ما قبل 150 م، بيتين من الشعر العمودي. لم يكتشف هذا النقش إلا عام 1979 في منطقة “عين عبدة” قرب “مدينة عبدة” أو “عبدات”، (ثاني أهم مدينة نبطية بعد البتراء على طريق البخور القديم، وتقع في النقب المحتل جنوبي فلسطين)، وقد يكون من أقدم النصوص الشعرية العربية المكتشفة حتى الآن.
-يتبع (إن شاء الله)-