هذه هي المرة الثانية التي أصادفه فيها ولا أتذكره إلا بصعوبة ولو لم يناديني باسمي الشخصي كعادته لمررت دون أن أنتبه إليه ..
-ما بك جميلة ؟ ألا تلقين التحية ؟
التفت إليه فجأة ابتسمت كعادتي عندما أحس بالحرج :
-اعذرني، أخي ، والله إني لا أنتبه إطلاقا وأنا أمشي في الطريق ..وهذا يخلق لي الكثير من المتاعب ،أضفت ضاحكة قليلا ..كثيرون سيقولون متكبرة!
-دائما خجولة لم تتغيري !
فعلا لم أتغير كثيرا عما كنت عليه ونحن ندرس في الثانوية..
كان ذلك مقبولا منك حينها. أما الآن ؟ عقب مستغربا .على كل حال حتى ملامحك لم تتغير وكأنما وضعوك في ثلاجة وأخرجوك منها للتو ..أنت كما كنت لا زلت صغيرة ..
يا إلهي هل هذا غزل لم يفعلها حتى ونحن في فترة المراهقة ..قاطعته حتى لا يتمادى – رغم أن التغزل بامرأة جاوزت الأربعين سنة لا شك أمر يشعرها بالاعتزاز ويرفع معنوياتها إلى السماء السابعة – ثم سألته عن المرأة التي تقف بجانبه ..أجابني هي أيضا اسمها جميلة،مثلك ! دققت فيها قليلا ثم تذكرتها ..إنها تلك المرأة التي كانت في تلك الجمعية والتي لا تفكر إلا في جمع المال بشتى الطرق ..كثيرون هم من سلكوا هذا الطريق لأنه يدر عليهم أموالا لا بأس بها ينتفعون بها هم وأبناؤهم بدل تسخيرها للعمل الاجتماعي المخصصة له.. تظاهرتْ بأنها لا تعرفني لأنني كنت من المعارضين لتوليها رئاسة تلك الجمعية بعدما حدثوني عن تاريخها الأسود في نهب وسرقة أموال المساهمين والمحسنين .. كم هو الفرق شاسع بيننا !
نقطة التشابه الوحيدة هي الاسم ، أنا لم أكن يوما مادية
كنت دائما أحلم بإتمام دراستي والاستقلال المادي والمعنوي عن الآخرين حتى ولو كانوا أقرب الناس لي ..عكس بعض زميلاتي في المدرسة اللواتي كن يحلمن بالزواج من رجل غني يوفر لهن كل احتياجاتهن دون أن يحتجن لبذل أي مجهود ..وكثيرات منهن تزوجن من أبناء الجالية في الخارج نظرا لما كن يرينه عليهم أثناء العطلة الصيفية من بذخ وركوب في سيارات فارهة إلى غير ذلك من الأمور التي لم تثرني أبدا ! لم أفكر يوما أن أحقق أحلامي عبر شخص آخر حتى ولو كان سيصبح زوجا لي..
هذا ما قلته في يوم من الأيام لصديقة لي وخسرت صداقتها للأبد لأنها كانت تريدني أن أتزوج من أخيها الذي عاد لتوه من هولندا ليبحث عن ضحية جديدة بعدما طلق الأولى ولم يمر على زواجهما شهران أو ثلاثة .. قلت لها بصراحة: إن الزواج بتلك الطريقة ومن شخص يأخذني معه خارج البلاد أمر يخيفني كثيرا ولا أستطيع الإقدام عليه ..والأهم من كل هذا هو رغبتي الشديدة في إتمام دراستي ودخول الجامعة وكنت حينها لا زلت أدرس بالثانوية .
كثيرا ما كنا نسمع في ذلك الوقت أن أبناء الجالية القادمين من أوروبا يتزوجون هذا العام ويطلقون في العام المقبل ليتزوجوا من أخرى ..وغالبا ما كانت العائلات التي تسعى فقط وراء المال تورط بناتها وتوقفهن عن الدراسة ليعدن في العام المقبل مطلقات يائسات محبطات وقليلا ما يتزوجن من جديد ونادرا ما يلتحقن بصفوف الدراسة مرة أخرى.
سمعنا حكايات كثيرة مؤثرة في ذلك الوقت عن فتيات تزوجن ب “الفاكانسيا” كما كنا نطلق عليهم فتحولت حياتهن إلى جحيم . كن أحيانا يتزوجن دون حضور العريس الذي كان يوكل شخصا آخر لعقد قرانه على الفتاة ..وبعدما تلتحق به هناك تكتشف رجلا غريبا عنها بعاداته ومعتقداته التي تلوثت بحضارة أخرى هو عاجز عن استيعابها لأنه غالبا ما يكون أميا أو شبه أمي إضافة إلى اعتقاده الراسخ بأن من حضرت من بلاد أخرى لتكون معه أسرة هي فقط امرأة مادية تبحث عن فرصة للاغتناء هي وعائلتها ..وهكذا تبدأ رحلة العذاب والمعاناة التي غالبا ماتنتهي بالطلاق وأحيانا بالعنف أو حتى القتل ..هذا إذا أسعفها الحظ وحصلت على التجمع العائلي في أقرب وقت ! أما حين تطول المدة ولا يستطيع الزوج إلحاق الزوجة به أو لا يريد بل يفضل أن يتركها مع أسرته ليزورها ” كل سنة مرة ” فهذه هي الطامة الكبرى . فإما أن تكون الزوجة صبورة إلى أقصى درجة لتتحمل زواجا مع وقف التنفيذ إضافة إلى عدم شعورها بالحرية لأنها تسخر لخدمة أهل الزوج وكسب رضاهم وإلا طلقت بمجرد عودة الزوج في المرة القادمة لأنهم عاشروها واطلعوا على كل عيوبها ولم تعد صالحة لأن تكون زوجة لابنهم. وإما لا تستطيع التحمل ،وغالبا ما تكون العروس فتاة قاصرا أو في العشرينات من عمرها، فلا يمكنها أن ترضخ لكل طلبات أهل الزوج ولا يمكنها الصبر على سلب حريتها منها وهكذا تصبح في مهب الريح مع أول زلة أو غلطة ..
وهناك حكايات أخرى يندى لها الجبين عن أشخاص من محارم الزوج تحرشوا بزوجات إخوانهم العاملين في الخارج وأقاموا معهم علاقات جنسية كان ينتج عنها حتى الحمل في بعض الأحيان ..ولقد سمعت مرة أن مغتربا عاد بعد مدة طويلة للمغرب ليجد زوجته حاملا من أبيه . ولقد حكت لي إحداهن أنها كانت دائما تحلم بالزواج من شخص مقيم بأوربا ..وبعدما تحقق حلمها وتركها الزوج في بيت أهله واعدا إياها بالالتحاق به في أقرب فرصة ..لم تستطع التأقلم مع أهله فشبت بينها وبينهم بعض النزاعات التي اعتبرتها هي عادية واعتبروها هم جريمة في حقهم فهم من زوجوها للابن ووعدوها بتحقيق أحلامها وانتشلوها من براثن الفقر ..عاد الزوج ..تنفست الصعداء وظنت أن الخلاص قريب بعدما ودعها من جديد واعدا بالعودة لأخذها ..لكن المفاجأة كانت كبيرة وصادمة إلى أبعد الحدود حين علمت أنه طلقها غيابيا قبل ذلك بأسبوع وأنه كان لا يزال يعاشرها كما يعاشر الرجل زوجته طول تلك المدة!
وأنا عائدة إلى البيت بعدما ودعت رشيد وجميلة ،تذكرت أيام الدراسة وكيف كان رشيد يحترمني ويقدرني مثله مثل الآخرين وتذكرت كم كنت أبدو جدية وكنت أرفض حتى مصافحة الذكور رغم أنني لم أكن قد ارتديت الحجاب بعد ..وكانت أمي تلمح لي أحيانا بأن لا أحد سوف يجرؤ على التحدث إلي حتى وإن كان راغبا في الزواج مني ..
ابتسمت بيني وبين نفسي بعدما تذكرت حياتي قبل وبعد الزواج واكتشفت أن الأقدار قاسية في جميع الأحوال!