الصلاة مع التباعد وحكمها في زمن (الكورونا)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فلا نزال نعاني أشد المعاناة، مما ترتب على دعوى العلم (التعالم)، ودعوى حرية التعبير، ما نتج عن ذلك خلط كبير في علوم الشريعة، حيث تداعت الأقلام -بدعوى- نصرة الدين والسنة، فكتب كل أحد مما هبّ ودبّ، الأمر الذي -بدل تحقيق مصالح الدين-أنتج مفاسد يطول علاجها، لما هو معروف: أن البناء يأخذ مساحة كبيرة من الزمان والمكان وانشغال الأذهان، والأمر يستفحل أكثر، كلما كان الكاتب جاهلا، يستقطب جهدا عريضا: لحاجة في النفوس لا غير.
وقد جاءني سؤال من أخ كريم حبيب، حول سطور كتبها أحدهم، يفترض بهذه السطور بطلان وبدعية صلاة بعض الدول في المساجد، مع التباعد بين المصلين، ولست بصدد تفنيد حكم المسألة، -مع جوازها إن دعت الحاجة إليها-، بقدر ما أنا بصدد بيان خطأ هذا الكاتب في الاستدلال، لأن أمر الاستدلال إن لم يكن على طريقة الفقهاء، كان فسادا كبيرا، فأقول والله عون لكل من استعانه:
قوله: بأن العبادات لا يتدخل العقل بها بأي وجه ……….
أقول: العبادات نوعان:
١. نوعٌ التشريع فيه غير معلل، ونوعٌ فيه التعليل، فكون الصلاة ركوعها قبل سجودها، وأن فجرها ركعتان، وأن قراءة القرآن فيها حال القيام لا حال الجلوس للتشهد، فهذا لا شك أنه لا مدخل للعقل فيه، لأن مناط تشريعه وبيانه هو الشرع دون غيره، وهذا ما ينطبق عليه: “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وأما إن كانت العبادة متعلقها القول، فينظر لهذا القول إن كان محتملا أو لا، فمثلا: قوله عليه الصلاة والسلام: “فلا يبرك كما يبرك البعير”، فالنظر في تفسير النص هذا تحديدا، فهو مجمل يحتاج إلى بيان، ولذا فمن أهل العلم من دله فهمه (عقله) إلى أن الركبتين توضعان أولا، وذهب فريق إلى أن اليدين توضعان أولا، قلت: وهذا يتعلق بدلالة القرآن أيضا، فالقُرء عند قوم غيره عند غيرهم.
وعليه؛ ولا أطيل: فلا بد من التفريق بين النص المحتمل -ولو تعلق بالعبادة- والنص غير المحتمل.
٢. نوع التشريع فيه معلل: وهو كل حكم أمكن الحمل (القياس) عليه، بوجه من وجوه الحمل المعروفة عند الفقهاء دون غيرهم، ومن هنا:
ذهب الجمهور إلى مشروعية رفع الأيدي مع التكبير في غير الفريضة -كالعيدين والجنازة- قياسا على الرفع في الفريضة.
وذهب أبو حنيفة إلى عدم الرفع في غير الفريضة، قياسا على عدم الرفع في الفريضة -إلا في تكبيرة الإحرام في كلها- وهكذا.
ومن هنا ثبت مغايرة الأحكام حسب تغاير مناطاتها، فليتنبه.
قوله: كل بيان يأخذ حكم المبين، ورتب عليه، أن أفعال الصلاة -مثلا- تأخذ حكم الصلاة وهو الوجوب، وأن أي نقص أو زيادة بدعة.
أقول: سقوط قوله يغني عن رده، لكن سأرد بأيجاز شديد، حتى لا يمل غير طالب العلم.
فأقول: لو كان كلامه صحيحا لما وجدنا تباينا في أقوال الأئمة في أن للصلاة بلا خلاف أعلمه: شروطا، وأركانا، وواجبات وفرائض، وسننا، وهيآت، وعمدة هذا التقسيم إنما هو فقه النصوص، الذي محله: عمل العقل، خلافا لما كان قد ادعى.
ويكفي في ذلك حديث المسيء صلاته، فقد علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تصح به الصلاة، علما أن قوله عليه الصلاة والسلام: “صلوا كما رأيتموني أصلي” فيه زيادات على هذا النص، مما يدل على أن استنباط الكاتب أن كل أفعال الصلاة واجبة باطل باتفاق.
وأما دعواه ببدعية الزائد، فهذا دليل أنه لا ضابط عنده للبدعة إلا مجرد مخالفة ما يتوهمه هو أنه نص أو من النص الذي لا يجوز الزيادة عليه أو النقص منه.
ومن هنا تظهر مشكلة معاناة الفقه الأسلامي ممن يتسلقون أسوار الاجتهاد بلا آلة أو بنقص فيها، فيخطئون في إسقاط الأحكام على النصوص والأصول، والكاتب من هؤلاء للأسف، -مع احترام المقامات-.
قوله: بجبن الفقهاء الذين قالوا بجواز الصلاة مع التباعد بين المصلين، وأن المشكلة تكمن في التعقيم للمصلين فقط.
أقول: هذا دليل المباينة بين الكاتب وعلم الفقه ذلك:-
أ. أن التكليف لا يكون إلا بالمقدور، وأن المقدور لا يسقط بالمعسور، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق، وأن الضرر الدنيوي معتبر، فتتخذ له الوسائل والتدابير المتاحة لمواجهته، وكل كلامي هذا أدلته في الكتاب والسنة مستفيضة، يقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، ويقول تعالى: (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)، ويقول تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، ويقول عليه الصلاة والسلام: “لا ضرر ولا ضرار”، ويقول أيضا: “اعملوا فكل ميسر لما خُلق له”، وغير ذلك من النصوص.
وعليه: فالصلاة مع التباعد ليست بدعة، بل هي خير من عدمها، لأن الميسور -وهي الصلاة مع التباعد- لا يسقط بالمعسور -وهي الصلاة مع رص الصفوف، وليس هذا حالها من تضييع الواجب، بل هو من باب رعاية ما هو أوجب، رعاية طبية، ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لصاحب الباسور: “صل قائما، فأن لم تستطع فقاعدا…….” فهذه رعاية طبية، تسقط الركن حال العجز، وليس الواجب فقط، والعجز الناتج عن ضرر القيام، فأباح له الصلاة من قعود، بل من نوم أيضا.
وكذلك: لما جاء مجذوم للبيعة، وكان من واجباتها المصافحة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “ارجع فقد بايعناك” فهذا واجب سقط لاعتبار الضرر الطبي، فما بالك بجرثومة فتاكة، إلى الآن قتلت الآلاف.
ودعواك بجبن الفقهاء، ليس شجاعة منك ولا جرأة في بيان الحق، بل عن خور في نفسك أو همك أنك صاحب: كلمة حق عند سلطان جائر، بل هي يا صديقي: كلمة باطلة، وفي أحسن الظروف -لو كان- كلمة حق أريد بها باطل.
فلعلك وأمثالك ممن حسدوا الناس على اللُّحمة الوطنية، التي حققوها بفضل الله تعالى أولا وآخرا، ثم بفضل اتباع التدابير الوقائية والاحترازية، التي سنها الخبراء والحكماء لحماية الوطن والمواطن.
وأما دعواك أن العلاج في التعقيم، فيا أخي أنت تعجز عن تكاليف تعقيم نفسك بالطريقة الصحيحة السليمة، فكيف بآلاف المصلين -لو كان-، ثم إن هذا الأمر، ومسألة ضعف الجرثومة (الفيروس)، إنما يقدر هذا أهل الصنعة من الأطباء، لا أنا ولا أنت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرشد صاحب الباسور، لم يقل له: عالج الباسور ولا تصلِّ غير قائم، بل رخص له لعموم حاله، فتنبه وجنبنا شر كلامك بارك الله تعالى فيك.
هذا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه/ د. سمير مراد
من يوم الأحد
٣/رمضان/١٤٤١-٢٠٢٠/٤/٢٦