حضور اللذّة الشعرية في النصّ – علاء الحامد

0
1352

 

-ناقد عراقي-

تزداد يوما بعد يوم حاضر الأيام الجميلة، ليرجع الشاعر إلى النستلوجيا عبر الذاكرة التي يملكها، وهناك النستلوجيا الجماعية والنستولوجيا الفردية، وبما أننا أمام شاعر منفرد، نقرأ ونعتمد مجاميعه الشعرية، فسوف نقف أمام النستلوجيا الفردية وخصوبة الذاكرة والرجوع خلفا مع الفلاش باك، بواسطة الشعرية التي رسمها الشاعر العراقي سلمان داود محمد..

فحاضر العراق يتمثّل بحاضر الحزن والكآبة المصطفة على مدار العام، وذلك لارتفاع درجات الحرارة من جهة وانعدام الخدمات والحضارة المدنية من جهة أخرى، وكذلك الحروب المصطنعة والمشتعلة على الطبقة الدنيا، ألا وهي الطبقة المعدمة، والتي تشكّل الشريحة الواسعة مابين شرائح المجتمع العراقي، والشعب العراقي كجهة جماعية هو الوحيد الذي يدفع هذه الضريبات المتتالية، ناهيك عن الهجرات التي تحدث لأسباب عديدة منها السياسية وغياب العنصر الديموقراطي، إن كان حاضرا أو في العصور الماضية، ولم نستغرب من شاعر يسخّر أدوات قصيدته نحو هذه المهام الجديدة التي تنتابه كفرد من هذا الشعب..

وظاهرة “النستولوجيا” انتشرت في الآونة الأخير من خلال التنهدات والأسف والحسرات التي ترافق الفرد العراقي ضمن الجماعة، وليس غريبا على أيّ مواطن وهو يلاحظ الفروقات المجنّسة وحاضر العراق المؤسف وما بدا عليه وما يبدو عبر سنوات عديدة، كأن الحاكم يريد من ذلك أن تكون نظرية ثابتة لتمزيق شتات المواطن العراقي، بواسطة الدين وتأجيج الطائفية والإنحياز إلى دول مواطنوها يعانون أشدّ المعاناة من الاختناقات المتتالية، واستعادة الأيام الخوالي والميول إلى السذاجة المنتظمة ظاهرة تبرز في أيامنا هذه على مستوى الإعلام ومستوى الشارع العراقي المختنق.. النستولوجيا الفردية تظلّ باصطحاب الفرد وكلّ فرد في المجتمع، فهي ملازمة للذاكرة بين الحين والآخر، وهذه الأمور ومقارنة الماضي بالحاضر طبيعية جدا، ولكن من خلال الشعرية، يطرد الشاعر تلك الصور المتتالية التي تصاحب الفرد، والتي تحلت بالبؤس والشقاء والمطاردات، مما أعطت نتائجها في الإكراه وغلاف التفرّد بقرارات الشعب العراقي واشتعال الحروب الداخلية والخارجية.. هذه الأغلفة كانت تصاحب الأيام الخوالي والتي تصاحب الفرد أحيانا من خلال الذاكرة، ولكن هي اشتغالات بعيدة عن الفلاش باك ولها مقارباتها في الشعرية، ومن الضروري الإشارة إليها من خلال القصيدة..

إنّ ملاحقة الألم الذي هو مدار الزمن الشعري.. كان من خلل اللّذة الشعرية والتي هي نتاج ذلك الألم.. والألم إمّا أن يكون مخفيا أو ظاهريا، وهنا التباعد والتقارب وتميزهما من خلال اللّذة الشعرية ..لا لذّة دون معاناة سابقة، فاللذة هي نتاج تلك الآلام والمعاناة..

تحمل اللذة الشعرية معها اللغة الإيروسية وهي تشقّ طريقها نحو إملاء الفراغات الحياتية التي تتواجد على كوكبنا وفي جميع المجتمعات، وليس من الضروري أن تنزل اللذة إلى تحقيق الرغبات الجنسية وإظهار مكامنها، إن كان شعريا أو حديثا عابرا، فاللذة أحيانا تتجاوز القلق الحسي لدى الشاعر، وتبعث في نفسه الأريحية وهو ينتعش بقشعريرة الفرح أو قشعريرة الحزن، فالوجهان صورتان مكملتان لنتائج اللذة.. ورؤية الشاعر والنزول إلى طاولة الأشياء وكذلك اختراق تلك الأشياء والغوص في دواخلها، هي رؤية شعرية تدلّ على متابعته الذاتية أولا ومتابعته لحركة التاريخ والأحداث الصغيرة والكبيرة ثانيا، فالنقد التاريخي وحضوره أمام الشاعر يشكّل منفذا من منافذ الانتماء إلى معالجة تلك الحوادث، القريبة منها والبعيدة..

وتبقى الموجة ممتدة وتصاحب الشاعر عبر تجربته الشعرية ما بين الألم واللذة ومابين الحنين والفلاش باك، وهذه الموجة باعتبارها الفكرة غير المدركة، لذلك يكون مكون الشاعر ما بين الإدراك الفكري والإدراك الشعري في رحلته الشعرية.. وصور الشاعر الحسية هي أكثر الأبنية حضورا في عملية الخلق..

 

أوصافي: حشود تلوّح وطحين أعمى..،

لستُ من يمحو النكبة برغيف مختوم

أو يرفع الشرخ إلى سارية

ولستُ كما تدّعي الثكنات

في ظلام الكمائن يوقد الحقول

لكنّي محتشد بجسامة الندى

أطرد شهوة التفسّخ عن مفاتن الجثث

ولا أستدير

حين تغرّد الغنائم في ردهات القسمة..

ص 98 الأعمال الشعرية الأولى

ليس القسمة هنا بمواصلة الشاعر مع اللغة والصورة التي يحضرها من خلال اللغة، وإنما جلوسه مع لذة انتهاء الحرب القائمة، فبعد بلوغ الآلام، حصل على لذة قلبية وذهنية، لذلك وما بين حيطان الغرفة، راح يستحضر تلك الحرب في الثمانينات والتي انتهت بدون انتصارات، سوى انتصار الأموات وانتقالهم إلى عناوين جديدة، فالشاعر وإن كان ابن زمنه وبيئته، لكنّه لا تفارق شاعريته لذّة الألم ولذّة الفرح وكذلك الحزن، وهي نتائج لأعمال أو لفترة انتهت، وراح يحصد تلك النتائج: “إنها إحساساتنا المنتمية إلى الإدراك الباطني أي من زاوية داخلية: هذا الإحساس الجيد أو السيء في داخل الذات مثلا في لحظة معطاة – أو إدراكاتنا/ ذات العلاقة بالإدراك الخارجي أي بالعالم “الخارجي” المحيط بنا، بغض النظر عن مصفها: سمعيا كان أو بصريا أو لمسيا أو ذوقيا أو شميا – والتي هي في البداية تأويلات نعطيها لما يحدث لنا “ماديا أو نفسيا”، أو لما نعانيه داخليا أو جسديا. ص 20 سيميائية اللغة -لمؤلفه جوزف كورتيس- ترجمة: د. جمال حضري”. فانتماء الشاعر الحسي، انتماء إلى النكبة والحرب المزركشة بكل أنواع الموت: 

أوصافي: حشود تلوّح وطحين أعمى.. فأوصاف الشاعر هي الحشود، وتلك التي زرعت في الأرض من قمح، وتحاول بواسطة الطواحين، إلى طحن الناس، وملذاتهم، ويبقى الشاعر ذات الانتماء بما يشير إلينا من خلال الترميز، ويعلن على مدار البصرية التي استخدمها في تدجين الرؤى، فالنكبة والثكنات والكمائن والغنائم، كلها إشارات إلى وقوع كوارث حربية في زمن الشاعر الذي عاشه.. الإقامة الذهنية هي إقامة خارجية، تفرقت عن الأنا وتخصصت عبر هذه القصيدة وقصائد أخرى بحسية المكان، حيث المكان كان واحدا، ولكن التغييرات في الزمنية وتوقيتها بين فترة وأخرى.. تتراكم عادة في ذهنية الشاعر الكثير من الصور الملتقطة، وتحتفظ بالمخزن الشعري الذهني، والمشاهد التي أمامنا وما تلاها، هي نتائج تلك المخزونات البصرية والذهنية والشاعرية، التي تتجاوز الأحلام، لأنها فارقت تلك الأحلام بحضورها على الواقع.. فالعلاقات التي يطرحها الشاعر بين المفردات هي قوة الرؤيا ومزاجية الذهنية الشعرية التي استطاعت أن تنتمي إلى الغرفة الباردة وكيفية التعامل، بمزاجية شعرية مع الحدث الشعري، والولوج إلى هذه العلاقات المتجانسة..

 

أحبّ الموسيقى و(ساحة الطيران)

وأحفر في السبائك (لا أريد)

فصيلة دمي (باب الشيخ)

وعندي من الشظايا

ما..

يجعل

النهار

مرقطا..

 

نفس القصيدة ص 98، الأعمال الشعرية الأولى

العلاقات بين المفردات علاقات تبادل للمدركات بين الشاعر وبعض مناطق بغداد، فالرؤى بمعطى شاقولي مباشر، والشاعر يشير إلى الأشياء، ويرمز إلى دلالات واضحة ما بين ولادته في (باب الشيخ) و(ساحة الطيران) التي تزدحم بالطبقة المعدمة.. فالصورة التي رتشها الشاعر مبنية على تجسيد الأشياء من جانب والإمعان في التشخيص من جانب آخر، فقد امتدت المفردات وأعلن بعض البياضات الجانبية، كي يرسم الصورة القصدية في القصيدة كلها.. السلوك المعرفي الذي يكمن خلف اللغة تحول من الباطنية إلى الظهور بواسطة اللغة التي يراوغ بها الشاعر، ويسخرها بمتعة ظاهرية، ويجري مع اللذة الشاعرية التي تبان لنا ونحن نعيش الحدث معه.. تتلائم الرؤية مع مطابقاتها الخارجية لتشكيل حالة تعبيرية لمحتوى القصيدة؛ وأن تتلائم الحالة التعبيرية مع الحسية الداخلية التي تعلّق الشاعر بالمحتوى، وتساعده على إيجاد علاقات خارجية وعلاقات داخلية في لملمة النماذج التي جمعتها البصرية من (أصوات وألوان وعلاقات أخرى).. وعبر إنشاء نسق من النماذج المتجمعة عبر المطابقات الحسية، وهذا ممكن جدا مع التجربة التي يملكها الشاعر عادة.. فالبصرية لدى الشاعر هي المبشّرة الأمثل والميول إلى تلك العلاقات التي ينتمي إليها، حيث النظرة المثلى في كيفية التوازن مع الحدث الشعري بواسطة اللغة؛ مما تكون العون الفعال في إيجاد الدلالات التي تدعم النصّ الشعري..

“إنّ البنية اللغوية في الشعر لاتتحدد بالكلمات، بل بالصيغ. وعندما يتم تفكيكها إلى وحدات دنيا، بحثا عن أعدادها وحقولها وتبادلاتها، تكون قد فقدت مواقعها في منظومة التركيب الشعري/ ص 45 –  د. صلاح فضل – أساليب الشعرية العربية المعاصرة.”.. فالمكانة التي تشغلها المفردات الشعرية يكون قد ملأت تلك البياضات التي شغلتها بأنساق معينة، مع شبكة من العلاقات المتناسقة، بالرمزية مثلا والمجازية وكذلك أسلوبية التعبير ونشاط الذاكرة وميولها إلى الحدث الشعري ككل..

لإعطاء المتعة الفنية للقصيدة التي يعتمدها الشاعر سلمان داود محمد، نحدد قبل كل شيء المسلك الفلسفي للمفردة الفنية والتي لها موقعها بين الشطور وتواصلها الثابت.. أي نحن بين الثابت والمتحرك، فالمطلوب إثباته هو الدلالات وحركة النصّ وإلى أين يقودنا وهذا الثابت هو المنظور الشاعري، فالمنظور يبدأ ولا ينتهي، فهو الحاوي لجميع تفرعات الحالات الفنية في القصيدة الواحدة، والمنظور لا يختلف عن القواعد النقدية، فمنها تم اشتقاقه وإليها تعود عملية النطق ورسم الألفاظ، والمتحرك هي حركة الخيال التي يعتمدها الشاعر في توظيف اللغة وحساسيتها في القصيدة الواحدة، فحساسية المفردة مثلا، لو أبدلناها بمفردة قريبة، تتقبل ذلك، وهي مغايرات في اللغة والاعتماد على المراوغة، وهذا جزء من متعة، تمتع المخيلة وتمتع المتلقي أيضا.. فظهور المتعة في القصيدة هي أوّل الالتفاتات البصرية إليها، ونستطيع أن نسميها الظاهرة الجذابة، وتعتبر مغانطيسية للمتلقي، هذه الظاهرة تتلقى الموضوع والهدف المرسوم من قبل الشاعر، فحساسية الكلمات هي مجموعة من التصورات المرسومة، تتلّقى أحيانا تصاوير البصيرة، وأحيانا تصاوير المخيلة، والاثنان يصبان في الخيال وحركته المستمرة، والدائرة بين الباث والعمل الشعري:

أنجبت زيجات المتعة أولادا مؤقتين

وكذلك الدساتير المؤقتة – أنجبتنا..

هذا ما قاله الضياء للطريق..

بتهمة الشجن

تأرجحت من العمود جثّة المصباح..

فرّت الحقول نحو المدخنة

واختبأ الظلام في الرغيف وانتهى..

الناسك منشغل بتجميد الحرائق

والمخاطر دامغة كالفوانيس

ما زال الله يضيء السماوات والأتربة

وما زال التوجه نحو أضرحة الكهرباء

لدفع الأجور

عملا حسنا..

ص 171 من قصيدة قدم في الأعالي -الأعمال الشعرية الأولى- سلمان داود محمد

إنّ الرجوع إلى الأداة الشعرية (اللغة) وهي تلازمنا في جميع التحاليل والمعجم الدراسي لأي نصّ شعري أو نثري، فالقصيدة بالنسبة للشاعر العراقي سلمان داود محمد عبارة عن أداة، يستخدم يقظته اللغوية وكيفية إدارة تلك اليقظة والعمل من خلالها، فالمعاني هي معاني اللغة بشكلها الأعلى قبل كل شيء، واللغة هي الطريق المفروشة لتلك المعاني والتي تمتّع الآخر، بل تقوده إلى المؤثرات الشعرية/ كالحزن والفرح.. واليقظة والعقل.. والخصوصية والمخيلة..

فالمخيلة حاضنة لجميع الأشياء، ومن خلالها يرسم أدواته التي ذكرناها من معان خلابة، تؤدي إلى اليقظة والانفتاح نحو الآخر، مع اللغة العليا التي تناسب الشعرية التي يرتديها الشاعر في محطته التي يتوقف عندها.. “يحتوي كلّ نصّ على تاريخ الكتابة كلها. واللذة فيه ليست مفصلا زمنيا، إنها الزمان الذي يمضي الماضي به نحو المستقبل من غير شرط ولا غاية. وإذا كانت ثمة مقولة تقول: “لا جديد تحت الشمس”، فإنّ مقولة اللذة تقول: “لا عتيق تحت الشمس حتى الشمس نفسها”. ولذا كانت نصوص اللذة نصوصا مستقبلية على الدوام: إنّها نصوص عشق الآتي. ص 14 -لذة النص- رولان بارت، ترجمة د. منذر عياشي”.

كلّ ما يُطرح من ملذّات وأكلات شهية للنصوص، وكذلك نظرية المعنى، واللغة وما حولها، كلّها تعني إلينا الشعرية العالمية، ولم نميّز في طرح النصوص ودراستها سوى المعاني الجديدة، المعاني غير المطروقة، وليست المعاني المكررة والتي طرحت بأعوام قديمة، إلاّ متاعب زمنية تتعب الذاكرة وتبعد المتلقي والآخر، وراح بعض الشعراء يقلدون تلك المعاني واللغة، وهذا ما يبعدهم عن الإبداع الذي نبحث عنه دائما.. وبداية المعرفة تبدأ بالتصور الذاتي ” كما حددها الفيلسوف كانت في كتاب: فلسفة كانت النقدية”.. أنجبت: بدأ بالفعل أنجب، وأنهى الشاعر لوحته الفنية بمفردة: أنجبتنا، وهنا توالد المفردات. لو نلاحظ بأن الشاعر استخدم نفس الفعل، مما زادت دلالات اللوحة الشعرية معه، ورسم المزيد من المعاني لنفس الفعل، وهذه اليقظة الشعرية، لغوية بالدرجة الأولى.. فرّت الحقول نحو المدخنة: هنا الفرار. ويختم اللوحة بمفردة انتهى، فبين الفرار والنهاية عامل الغياب، هو الذي يحكم في تسييس الجمل الشعرية، فعامل الغياب انتهاء الشيء، وليس حضوره بعد برهة من الزمن. “أقول برهة فالبرهة تبدأ من دقيقة إلى ستة أشهر”. وفي لوحته الأخيرة يرسم تناسق النصّ الشعري، ويبرز دلالاته، فبين الناسك والفوانيس وبين الله وأضرحة الكهرباء، كلها مفردات متناسقة وهي تختلف معانيها، ويتصاعد إلى فهم الفهم، بالطرح واستجواب قصيدته المرسومة، ص 171، وهذه دلالات بانت لنا بشكل هادئ لا تقبل الشكّ وما يدور بمخيلة الشاعر الشعرية..

ولكي نشغل اللذة الشعرية بإطارها التصويري، والتي تعطي مزايا الشخصنة تارة ومزايا التخطيط في الفنون الجميلة تارة أخرى، فالشخصنة داعية من دواعي الشاعر والذي يطلقها في الهواء الحرّ، كي يلتقط ما يدور بالمخيلة وإن كان عبر الفلاش باك أو التقاطات آنية يوسّع بها مداركه الشعرية، وهذا ما ألاحظه لدى قصائد الشاعر سلمان داود محمد، وكذلك التخطيط بمزايا الفنون الجميلة، وذلك من الممكن جدا تمسرح القصائد عبر الحوارات الذاتية التي يطلقها أو الانتماء إلى لوحات زيتية، لم ينته العمل منها، لأنها قيد تأسيس الذهنية، وهذا يعني: ما زال الشاعر بخلقه الشبابي بالرغم من مرور التجربة الشعرية عليها لعشرات السنين، فالتجديد هو المطرقة التي نسمح رنينها، والمرآة هي الأداة العاكسة لوجهي الشاعر، الوجه الخفي وما وراء القصدية والوجه الظاهر ما هو أمام المرآة، يزيّن بشكل ناعم مفرداته الشعرية:

فهل رأيت كيف توفي “أديسون”

وتضاحكت في التأبين شمعدانات..؟

لا يهم..

على مبعدة من كلب وأناس يعرجون

يقيم هناك طبيب الخطى

سيعرض ساقين – وأشتري

الأولى تشبه التي نسيتها في “ديزافول”

والأخرى مما تساقط من نصب تذكارية

سأمشي بهما دهورا

حين أشتهي التقرّب من سريري..

فهل عرفت لماذا اعتاش الحرّاس على الأحلام

وازدهرت صناعة الخفّاش في المدينة..؟

نفس المصدر

علاقة المكان بالشخصنة الأخرى علاقة مكانية بتصرّف، وقبل أن أنتهي من كتابة القصيدة كاملة فقد كانت علاقة مخترع الإضاءة في العالم “أديسون” علاقة ديمومة لم تنته، ولكن علاقة  “ديزافول” بالحرب العراقية الإيرانية، علاقة الأصباغ الشفافة عند غسلها ستختفي، فقد اختفى المكان من القصيدة حالما انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وبقي عالم الكهرباء “أديسون” محلقا اسمه بين الشمعدانات والأضوية الفتّاكة، فالعلامة هنا لا تختفي، وتبقى نيرة ولامعة على مدار الأعوام..

تتدفّق اللذة الشعرية، في حالة الحرب وفي حالة الموت وفي حالة الفرح والحزن، فمنظور اللذة هو الذي يقودنا وليس منظور نظرية المعنى.. “المعنى هو الماهية، والماهية ملتبسة بالأشياء، تكتسب عن طريق الملاحظة والتفرقة بين الصفات الجزئية والعرضية والصفات المشتركة. ص 72 -نظرية المعنى في النقد الأدبي- الدكتور مصطفى ناصف، دار الأندلس”.

أستطيع أن أقسم مستوى اللذة الشعرية إلى قسمين:

اللّذة الداخلية.

اللّذة الخارجية.

 

اللّذة الداخلية:

 والتي تخصّ ما يمتّع الشاعر بحسيته الداخلية، وانتماء تلك الحسيّة إلى صور عديدة، يتخذ منها مسلكه اليومي الشاعري، واللذّة الداخلية هي المتعة الأهم للشاعر وما يتحلّى به من أريحية نفسية كي يستطيع الكتابة والتزاوج مع الأشياء الخارجية، ويفرز المعاني، ويرسم الألفاظ التي لها وقعتها بين معظم الشطور المختارة/ فهل عرفت لماذا اعتاش الحرّاس على الأحلام/ وازدهرت صناعة الخفّاش في المدينة..؟ القصيدة كتبت عام 98، وهذا يعني لها بعدها الزمني، أما المكاني، فهي نفس الحالة التي تتوالد في العاصمة بغداد، وخصوصا أنّ الشاعر ينتمي إلى بغداد وأهلها، وهو يفرز المحن، ولكلّ محنة حدثها التأريخي..

فالأحلام خصوصية وليست عمومية، ولا تمرّ متشابهة مع الآخر، لذلك أستطيع أن أنسب جماليتها، والطيران من خلالها إلى العمق الداخلي، وهي ما وراء الواقع، ففكرة الشاعر تسافر بنا إلى النواحي السريالية وهو يقودنا ما بين الطقوس الممتعة وقراءة القصيدة..

وقد قبض الشاعر على مسلك الحارس بأحلامه، لأن الحارس هو الحاكم الوحيد لتلك البيئة، لا يشاركه أحد، حتى بأحلامه اليقظة، فما بين اللذة الداخلية واللذة الذاتية هناك علاقات، وهذه العلاقات تتزاوج مع مبدأ الشاعر وفكره وانتماء ذلك الفكر، وفكر الشاعر هنا ومن خلال متابعتي لمعظم نتاجاته الشعرية القديمة والحديثة، ينتمي إلى الوطن، إلى فكر الطبقة المعدمة من بلده العراق.. والمشاعر الداخلية هي المحرّكة لهذه الأفكار التي تطرح من خلال قصيدة.

“ولفظ شعوري” من جهة أولى إنما هو وصف لفظي بحت يعتمد على إدارك حسّي ذي طابع مباشر ويقيني جدا/ ص 26 -الأنا والهو- سيجمند فرويد، إشراف الدكتور محمد عثمان نجاتي”.

وتتأثر هذه المشاعر بالعوامل المحيطة بالشاعر، ومنها المشاعر السريعة ومنها الانسيابية، ومنها المشاعر التذكيرية، كأن يجالس الشاعر قهوته أو غرفته وحيدا وتبدأ الأفكار نازلة عبر الفلاش باك أو عبر الحسية الخارجية والتي تنقل الأشياء إلى داخل الذهنية..

 

اللّذة الخارجية:

العلاقات التي تمنحنا بالوقوف مع الألفاظ وكذلك الترميز والصور الشعرية واللغة والحسية، هي علاقات القصيدة والتذوق الشعري، وهذه الذائقة لا تنزل إلى الذهنية إلا من خلال لذّة شعرية، لها مؤثراتها من قبل الباث نفسه، يشاركه الآخر في الخيال وحركته، ومدى إدراج الحدث الشعري وكيفية إدارة اللفظة بشكلها الفعّال، كلّ المفردات صالحة للذائقة الشعرية وكلّ المفردات نستلذّ بحضورها وتعبيرها المناط إليها، ولكن ليس كلّ المفردات تشغل الأمكنة بشكل دقيق، وموقعها الفعّال والمؤثر، هنا ماهية الشاعر وكيفية الاستقامة والانتماء إلى هذه اللذة، وتصديرها إلى الخارج، خارج الذهنية لتكون معلّقة بمخيلة المتلقّي..

فاللّذة الخارجية الحاضنة الكبرى لتصدير كلّ ما هو داخلي إلى الآخر والمتلقّي، وهنا تبان الرمزية وخيالها المتحرّك بتجميع الألفاظ عامة، لأنها المسؤولة عن التصدير الخارجي بما جمعته المخيلة عبر ذائقة شعرية لها جماليتها لعنصر الجمال:

لصالح الكراسي تعمل المؤخرات

لحساب من إذاً يشتعل الشهيد..؟؟

فمن تلقاء صمتها ستموت الأعالي

ومن جرّاء وجهك القدوس

سينبح القمر..

فهل لديك 17 / 1 / 1991 دينارا لنشتري الجريدة.. ؟!

لايهم..

أو

“لا”..

يهم..

نفس المصدر

هذه المعاني التي يصدرها الشاعر لها لذتها (وإن كانت لذّة حزينة أو لذة انتقادية)، فاللذة الشعرية والتمتع بالألفاظ، هو الشكل الآخر للقصيدة وجريانها ما بين البصرية والمخيلة ( كأنّ أحد القراء  يقرأ نصّا وهو يحدّق شارد التفكير، وذلك لدخوله إلى المتعة والغوص بها)، وهذا ما يجري عادة للشعراء القرّاء وهم يقرؤون قصائد الغير دائما..

يبدأ الشاعر بداية خارج حصار الألفاظ ولكنه يقودنا إلى الحصار المفروض على العراق بعد اجتياح النظام العراقي الأسبق للأراضي الكويتية، ومن هنا بدأت معاناة أخرى للشعب العراقي، وحصروا هذه المعاناة بين هلالين.. وهنا يستدي الشاعر اللغة، واللغة هي الأكثر غزارة، وهي الأكثر مادية أيضا، إذن نحن في خارج الذهنية ونتحسس الأشياء، من الكراسي إلى الاشتعال ومن الوجه وإلى القمر ونباحه الضوئي.. لذلك أنّ الدال على هذه الجمل الشعرية هو الآخر الغائب، فالدال يقودنا بقيادة الشاعر، ويرفعنا معه إلى دلالات تحمل بعضها الرمزية.. رمزية تحركت ضمن خيال الشاعر وهو يبصر البياضات على الورقة، والرموز هذه تدلّ إلى الإشارات، وتكون العلاقات ما بين رموز القصيدة وإشاراتها وكذلك الألفاظ التي سخّرها الشاعر كلّها تشكّل علاقات ما بين الدال والمدلول، وقد بان إلينا بأن الدال كان متسلطا وقائدا للعملية الشعرية في القصيدة..

لتلد السماء محاقا يعبده اللصوص

ولتسع النبوءات كملقط لجمع الأضاحي،

آن لإخلاصي أن يفرّط بالخلاص

مبتدئا من الأختام آكلة الصور

وتحت خطاه:

-زعيق الطوابع..-

جرعة النسيان..

واسم جديد..

فالجوازات حيلة قنصلية

نفس المصدر

الصورة المتحركة، هي صورة أيقونية تعتمد الألوان وبهجتها وإن كانت حزينة نوعا ما، فالحزن بهجة خاصة يجرّنا إلى بكاء داخلي، كما تجرّنا صورة تفكيرية إلى سعيها الفلسفي المعرفي لتطيع بالمسطحات وتبقى بألق دائم.. لو نلاحظ حول الجمل الشعرية وديمومتها بأن الشاعر قد اعتمد الأفعال، وهي مرحلة سيميولوجية، اعتمد عليها في تجديد الصور المتتالية، وهذا يعني هناك لذّة تفكيرية خارجية، سخّرها للآخر كي يكون معه في نفس البوتقة التي اختارها الشاعر..

أعطى الشاعر حقّ المواطنة الثابتة بما كتبه حول الحرب في زمن السلم، وعن الحصار الاقتصادي في زمن الحصار، والرحيل غير المنظم وذلك الضجيج الذي حلّ بالعراق، فقد رمز إلى جواز السفر، وأشار إلى الحيلة القنصلية، هذه الإشارة قادت الشاعر أن يكون أو لا يكون، فهو مدمع العينين لا محالة من ذلك أبدا.. ولكن الوعي الذي اكتسبه الشاعر من خلال تجربته الشعرية جعلته يعكس ذلك بدلالات واضحة وكذلك درجات الوعي القصوى والتي تعطي تغذيتها الديكارتية: تساءل ديكارت: “أي شيء أنا..؟” فأجاب: “أنا شيء مفكر”. ثم تلا ذلك تساؤلاً آخر: “ما الشيء المفكر؟”، رد فأجاب: “إنه شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت وينفي.”
وفي حصيلة الكتابة التي اعتمدتها حول حضور اللذة الشعرية وأيقونتها التي تظهر للآخر عبر التقارب الفني للقصيدة، ومن دون هذه المقاربات تبتعد اللذة من مخيلة المتلقي..

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here