من هو المثقف؟ – حليم المذكوري

0
354

النقاش حول من هم الكتاب وما دورهم في القضايا السياسية والاجتماعية، قديم قدم ظاهرة الكتابة نفسها. إلا أن الجواب على هذا السؤال ليس بالسهل، لأن مفهوم الكتابة وبالتالي الكاتب واسع وغير واضح. فهل نقصد بالكاتب الروائي الذي يتنصل من شخصياته التي خلقها بمجرد ما تنشر روايته؟ الروائي الذي يرفض أية مقارنة بينه وبين تلك الشخصيات ويرفض تحمل المسؤولية إزاء مواقف وسلوك الشخصيات التي أهداها الحياة؟
وبما أنه ليس الكتاب فقط من يلعبون دورا مهما في المجتمع – والكثيرون منهم يرفضون عن قناعة لعب مثل هذا الدور- علينا أن نميز بين كل الفاعلين في المجتمع. فالسياسي يلعب بدون شك دورا مهما في حياة الناس، لكننا لا نحسبه من فصيلة الكتاب. إذاً ما هو الفرق بين هذا السياسي وشخص آخر يقوم بدور مشابه لكنه في نفس الوقت كاتب؟ هذا الأخير يسمى عموما مثقف. فما هو المثقف؟ وحول هذا السؤال أسيل كذلك الكثير من المداد وأقيمت من أجله مناظرات متعددة دون تقديم جواب شامل يشفي غليل كل المهتمين.
ومع ذلك هناك نوع من الإجماع حول معنى هذا المصطلح وحول مصدره. حسب باربارا ميسطال في كتابها Intellectuals and the public good استُعمل مصطلح المثقف لأول مرة خلال ما يعرف بقضية دريفوس في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر. القضية التي اتهم فيها الضابط اليهودي الفرنسي ألفريد دريفوس ظلما بالتجسس لصالح ألمانيا وأدين بالسجن المؤبد. وعندما اتضح ظلم السلطات الفرنسية حاولت الحكومة التستر على الفضيحة/ المؤامرة، إلا أن إيميل زولا اكتشف الفضيحة وقرر كتابة رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية تحت عنوان “إني أتهم…..!” (J’accuse…!) نشرت في الجريدة الأدبية L’Aurore .
المثقف إذاً هو الشخص الواعي بواجب التدخل حينما تتعرض الحقوق للاعتداء وتقمع حركة المجتمع نحو الانعتاق والتقدم، ولو كان ذلك على حساب حريته. المثقف شخص مؤمن، بحكم تموقعه في عالم الأفكار، بواجبه الأخلاقي في الدفاع عن القيم الكونية حتى ضد الدولة. إيمانه بسيادة القيم الكونية يجبره على ربط هذه القيم بالهموم اليومية للناس حفاظا على استمرارية تلك القيم وانتصارها. إنه يعلم جيدا أن السكوت على ما يلحق الناس من ظلم سيؤدي لا محالة إلى اضمحلال تلك القيم التي خلقت لحفظ كرامة الإنسان والسير بالشعوب نحو التقدم والرقي.
نظرا لاهتمامه بالقضايا العامة، أصبح للمثقف دور مهم في الحياة العامة ليصبح بذلك “داعية” إلى إعمال الأخلاق في الحياة العامة عامة والسياسية خاصة. ويساهم المثقف بشكل فعلي في تشكل الرأي العام الذي هو جزء لا يتجزأ من أنظمة المجتمعات الديموقراطية. المثقف عامل “يشتغل برأسه” وله علاقة بتيار فكري أو إيديولوجي يساهم في خلقه وتطويره ونشره وانتقاده عند الضرورة. وحسب ريشارد بوسنر، هو شخص يوجه خطابه المبني على مصادره الفكرية إلى جمهور واسع حول قضايا ذات أبعاد سياسية واجتماعية. إنه شخص ذو تكوين عام وواسع (ليس خبيرا ولا متخصصا) ويواجه هموم المجتمع بعقل رحب ودائم التفكير في كيفية ترجمة الأفكار المجردة إلى حلول عملية لهموم ذلك المجتمع. إنه ملتزم بالقضايا العامة وله مواقف واضحة. والمثقف صاحب مشروع اجتماعي تقدمي (بالمفهوم الفلسفي للكلمة) يتوخى به التغيير لأنه مؤمن بقدرة المجتمعات على التغيير والزحف نحو التقدم الحضاري. بهذا يعتبر المثقف مكونا أساسيا من مكونات مسيرة التنوير المجتمعي. موقعه في هذه المسيرة بين كبار المفكرين والفلاسفة وبين أبناء مجتمعه؛ يترجم الأفكار الكبرى المجردة إلى آليات فكرية يسهل التحكم فيها وتطبيقها ليساهم بذلك في تبسيط المعرفة وجعل “العلم” في متناول قطاعات واسعة من المجتمع.
وضعية المثقف ليست بالسهلة. فلكي يستطيع الحفاظ على استقلاليته وقدرته على انتقاد المجتمع، عليه بأخذ المسافة تجاه ذلك المجتمع. لكن إذا كانت المسافة أكبر من المطلوب فسينسلخ عن المجتمع وينأى عن هموم الناس لتفقد أفكاره بذلك مصداقيتها وقوة تأثيرها. أما الانصهار التام في حركة المجتمع فسيجعل منه عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه وفِي نفس الوقت مهددا في علة وجوده. لأن المثقف سيتحول إلى مؤسسة عمومية مما يجعل أخذ المسافة الضرورية أمرا مستحيلا. وإذا انتفت المسافة سيتحول المثقف إلى جزء من المشاكل التي يقول بمحاربتها. عليه أن يقاوم إغراءات السلطة والجاه ليحتفظ بمكانته كناقد ومساند للمجتمع.
خلاصة القول هي أن المثقف يساهم في المناظرات العمومية ويربط المعرفة النظرية بهموم الناس ليصل إلى أفكار جديدة يمكنها المساهمة في حل المشاكل المطروحة. لا يمارس المثقف التفكير من أجل خلاصه ومن أجل لذة التفكير، وإنما يمارس التفكير للمساهمة في التغيير. من أجل تحقيق هذا الهدف ينتج أفكارا وحججا جديدة أصيلة ومعيارية، ويقوم بوظيفة طلائعية كجهاز إنذار مبكر.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here