من أشد أنواع تضليل العقول هو تبديدها حتى لا تعمل وصرفها لما لا يأتي عليها بخير ويعود عليها بنفع، ولقد مورست أساليب شتى من أجل هذا الأمر وصُرفت أموال كبرى. وذلك ﻷن نتاج هذا العمل يعني موت أي خلية تُفكر في النمو، ويعني منع أي يد تحاول بذل حركة، ويعني أيضاً الوقوف أمام كل جهد فكري بَنّاء وتحرري وفعال يساهم في امتداد حضاري واجتماعي واقتصادي لاحقاً. هذه الظاهرة لم نخترها عبثا بل جاءت بها يومياتنا من خلال الاحتكاك والتفاعل مع شتى الذهنيات والمستويات. ولقد لوحظ عفوياً ولوج كثير من عينات المجتمع، عوالم ليست بعوالمهم ثم خوضهم في مسائل دون مستواهم واعتقادهم بسلامة أفكارهم دون سواهم. وهذا ما يتأسف له كل عقل يبحث عن التنوير والتجديد والبحث، ﻷن مصيبة اليوم هي من شاكلة من جعل كياناً يعبده، فسلّم كل أمره له، فإن ما شدته الحاجة النفسية بحث في نفسه عنها، وحينما بحث عن حاجته المادية والاجتماعية عاد إلى حركاته المسموعة وصفحاته المكتوبة، لا لشيء سوى أنه أريد له هذا الأمر وأراده، فعمل على تطويره ثم تسويقه.
ليس ببعيد عنا أن نشهد بعضاً ممن استسلموا لأي نوع من أنواع المورفين الذي تعود العقل عليه، ومما لا شك فيه أن القليل من مورفين فكري سيجعلك تدخل في صراعات فكرية ومشادات جسمية مع أصدقاء لك وأحباب جمعتكم محطات الحياة. بعد ذلك تأتي عليك بعض من رياح الفكر لتُعظمها وتُمجدها، فلا ترى إلا ما رأيتها ولا تسمع غير ما سمعته، فتفقد تدريجياً صفات كثيرة كالحوار بالأخذ والرد وحسن الإصغاء وعدم المجادلة.. وتكسب صفات بدلها كالتعنت والتزمت والحدة في الكلام والابتعاد عن الناس ثم تصنيفهم..
كان حريا بالإنسان أن يأتي بثقافة اسمها ممارسة القول على القول حتى نجد حلاًّ ﻷزمة الأقوال التي نسفت بحركة اليد، فانشغل كل واحد فيما قال الآخر، وانشغلت أيادي أخرى في اتجاه آخر نافية بذلك مبدأ الطبيعيين، بأن هناك يدا خفية هي من تُحدث التوازن الاقتصادي، بل يجب تفعيل حركة العقل ثم حركة اليد لكي يمكن لك أن تتكلم عن حضارة أو تاريخ أو ثورة.
حديثنا عن المورفين الفكري يجعلنا نُقر أن عينات كثيرة منا تتعاطاه، بل مدمنة عليه لدرجة أنها تربط كل ساكن أو متحرك حسب سكون أو تحرك ما تؤمن به. هذا النوع من الانقياد هالك ونهايته التبدد، ولقد جمعتنا جلسات كثيرة مع نوع خاص من الشباب المتحمس، لكن المشتت ذهنيا الحامل ﻷفكار غيره الذي يسلم بمنطق واحد لا أكثر والذي يخوض في كل المسائل بنفس ذلك الإقدام العليل.. معتقدين جزماً أن التصوير الفلسفي أو الفكري يلزم الجميع. الغريب في الأمر أن تلك الطبقة لم تعمل على تحرير عقولهم، فقَل بذلك نتاجهم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع، وانحصر دورهم اجتماعيا في تمسكهم برسائلهم ومبادئهم. الأمر الذي جعل الهوة كبيرة بين الكم والكيف، مما عَجّل بشتات تركيبي في البنية الاجتماعية للمجتمع. أينما يفقد المجتمع في كل وقت عقلاً من عقوله يكون الجماد قد اكتسب رقماً إضافيا آخر له يعمل على المحافظة على قيم التكديس والتمجيد والتعظيم، بالإضافة إلى طرد كل ما يعبر عن التنوير والتحرير والتغيير، فيصير هذا النوع من العقول بعيداً كل البعد عن روح الاستلهام لكن قريباً كل القرب من روح الاستسلام. هذا ما يجعلنا اليوم كَمّا مُهملاً على هامش الحياة، لا ندرك أن من الحكمة والصلاح والرشاد هو صناعة فرد قوي فهماً. الأمر الذي يُعد صمام أمان للمستقبل حتى نضمن تشييد ذاك المجتمع السليم والمتين اجتماعيا وثقافيا وروحيا وماديا، الذي تتجول فيه كل المعتقدات والأفكار، لكن لا تتسبب لبعضها في الازدحام والفوضى.