لم يعد التّصعيد والتّصعيد المضاد بين البيت الأبيض وطهران ينطويان على الوعيد العسكري التّقليدي بضرب أهداف استراتيجية أو ترك جميع الخيارات على الطاولة فحسب، بل بدأ أيضا يستغلّ الحمولة الثقافية والرّمزية لمجمل العداء الديني والثقافي القائم بين الولايات المتحدة وإيران منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979. وعندما يلجأ ترمب إلى توجيه رسالة من خلال موفد عربي إلى طهران بأنّه سيرفع كافة العقوبات عن إيران إذا عدلت عن فكرة الانتقام لاغتيال الجنرال سليماني، يتبنى لغة والوعيد بضرب 52 موقعا ذا أهمية سياسية وثقافية للإيرانيين ضمن ما يحاول أن يروّج له كانتقام متجدد لاختطاف الرهائن الأمريكيين الإثنين والخمسين في السفارة الأمريكية في طهران قبل أربعين عاما. غير أن وزير الدفاع الأمريكي مارك إيسبر أوضح أن جنوده لن يضربوا المواقع ذات الأهمية الثقافية، بل سيتّبعون “قواعد الصراع المسلح“.
يزداد ترنّح ترمب إلى حد قرار منع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من دخول الولايات المتحدة لتقديم موقف بلاده في الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن في نيويورك وإن كانت الأمم المتحدة منظمة دولية وليست مؤسسة أمريكية. وهذا انتهاك صريح لاتفاقية مقر الأمم المتحدة التي وقعتها الولايات المتحدة عام 1947، ويشبه هذا قرارا سابقا اتخذته حكومة ريغن لمنع ياسر عرفات من الوصول إلى الأمم المتحدة عام 1988.
وحتى الآن، لا أحد في واشنطن يعرف الاستراتيجية النهائية لدى ترمب للتعامل مع الإيرانيين. لكن جموحه في إدارة هذه الأزمة الجديدة، بعد التحلل من الاتفاق النووي مع إيران قبل عشرين شهرا، لا يختلف عن ترنّح نيكسون في ذروة الأزمة مع فيتنام الشمالية قبل خمسين عاما. وتتعدد أوجه الشبه بينهما ضمن نظرية “الرجل المجنون” التي نشأت حول شخصية نيكسون في العلاقات الدولية. فقد تحدث نيكسون لهاري هادلمان، وهما يتجولان على شاطئ ضبابي خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1968، عن أربع قناعات عميقة الجذور في تفكيره:
1) كان نيكسون واثقا من أنه قد يجبر هانوي على تقديم تنازلات لمطالبه الدبلوماسية، وهذا ينطبق على ترمب بشأن تطويع إرادة طهران للتفاوض حتى في عز التصفية الجسدية لشخصية عسكرية تأتي أهميتها بعد مكانة المرشد خامنئي.
2) التهديد بإطلاق العنان للقوة العسكرية المتطرفة ضد فيتنام الشمالية، وقد لوّح ترمب بالتفوق العسكري لبلاده كعامل ردع استباقي.
3) نبّه نيكسون هانوي إلى أن استخدام القوة الأمريكية قد تشمل استخدام سلاح نووي واحد أو أكثر. واليوم يتوعد ترمب بضرب 52 موقعا مهما في إيران.
4) ستستند مصداقية تهديدات نيكسون إلى شهرته باعتباره مقاتلا سياسيا صعبا ومفعما بالحيوية ولا يمكن التنبؤ بقراراته، ولا يتوقف عند حد معين. وأنه دافع في السابق بوصفه رئيس الولايات المتحدة عن حلول عسكرية للمشكلات، وأنه قادر على تنفيذ تدابير عسكرية غير عقلانية أو مفرطة. ولا يخرج أسلوب ترمب حاليا عن هذا الاختيار لتقترب مسافة المقارنة بين أزمة فيتنام لدى نيكسون وأزمة إيران على ترمب.
ليس غريبا أن يقفز ترمب من أزمة محاكمته المرتقبة في مجلس الشيوخ في أي وقت تقرر رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي تقديم لائحة الاتهام إلى السيناتور ميتش مكانول زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ. لكنّ ما يعتبره ترمب “ألمعية المناورة” ضد الإيرانيين، خلال إجازة الكونغرس بين عيدي الميلاد ورأس السنة، قد يضعه في “خانة يك” أخرى لقصور نظره في تحديد المخرج الاستراتيجي للأزمة مع طهران. هو رئيس لا يحسن استراتيجية الحرب ولا فن المفاوضات، وإنْ كان يدّعي أن معرفته بالمفاوضات في بيع العقارات تؤهله لإبرام صفقات سياسية. لكن قد تضيع منه ورقة “صفقة القرن” باتجاه الفلسطينيين، لتأتيه “صفعة قرن” أخرى من أياد إيرانية أصبحت إرادة الانتقام لديها ضرورة حتمية.