كما يقع دائما بين أفراد العصابات عندما يستولون على بنك أو ينهبون منزلا، يختلفون عند توزيع المسروقات ويصل هذا الإختلاف إلى الإشتباك بالأيدي وبعدها بالأسلحة البيضاء والسوداء ، وتصل إلى حرب الشوارع والمدن بالنسبة للعصابات الكبيرة المنظمة، وقد تصل إلى الحرب بين الدول إذا كانت هذه العصابات مسيطرة على دول صغيرة أو كبيرة.
هذا بالضبط ما يحصل الآن بين العصابتين المسيطرتين على شعب إيران وعلى الشعب الأمريكي، لقد كانتا متحالفتين تماما منذ 2001 أثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان ، وأثمر هذا التنسيق تنسيقا إستراتيجيا أكبر للإطاحة بنظام صدام حسين سنة 2003 . وقد نجح هذا التنسيق في الإطاحة بهذا النظام بسرعة ، مما عزز غرورا فطريا في أذهان القادة الإيرانيين بأن إيران قوة عظمى لا يمكن الإستغناء عنها في أي عملية في الشرق الأوسط أو الأقصى واعتبروها منطقة تحت الوصاية الإيرانية. وهذا واضح في تصريحات لكثير من القادة الإيرانيين عدة مرات، بأنه لولا إيران لما استطاعت أمريكا القضاء على حكومة طالبان بأفغانستان ومنظمة القاعدة التي كان يسيرها ابن لادن من هناك، ولا القضاء على نظام صدام.
أما أمريكا فقد حققت أهدافها الإستراتيجية والتي لم يحسب لها القادة الإيرانيون الحساب هي محاصرة إيران من جهتين، من الجبهة الشرقية أفغانستان، ومن الجبهة الغربية العراق. وبنت فيهما أكبر القواعد العسكرية التي يمكن أن تمحو إيران بضغطة زر. وفي نفس الوقت عملت على نهب ثروات العراق التاريخية والمعدنية ، ونفس الشيء فعلت إيران ، خاصة بعد حصارها الإقتصادي بسبب مشروعها النووي. فقد كان بترول العراق هو زادها بتعاون مع عملاءها داخل الحكومة العراقية ومؤسساتها وكان الموقع الاستراتيجي للعراق هو منفذها التجاري لكسر الحصار.
وهذا ما عجل بالطلاق الإستراتيجي بين أمريكا وإيران ، فليست لهما أية شرعية للتواجد في بلد عربي، بل هما تستوليان على هذه البلاد الغنية لنهب خيراتها وإن تعددت الحجج والمبررات، فهم مجرد لصوص.
لهذا تنتفض الشعوب ضدهم ، وهذا سبب الثورة السورية ، والإنتفاضة الشبابية بالعراق مؤخرا ، وهذا سبب القمع المسلح لهما .لأن خروجهما معا يعني قطع حبل الوريد لهذه النعمة المادية والقوة المعنوية، خاصة بعد زيادة التغلغل الإيراني بسوريا ولبنان واليمن وسيطرته على منافذ استراتيجية، وهذا أصبح يقلق حتى حليفها بسوريا “روسيا” وتترنح من المزاحمة الإيرانية على هذه المنافذ والمواقع. وهذا ما جعل ترامب يستغل هذه الظرفية المناسبة لتصفية حليفه أو عميله غير المباشر ” سليماني”
لماذا اغتالت امريكا عميلها
كان قاسم سليماني يتحرك على الأرض سواء السورية أو العراقية مدة طويلة بحراسة أمريكية من فوق، وبتنسيق تقني خاصة في التحالف ضد “داعش” و”جبهة النصرة” ، وإن كان الكثير من الغموض ما زال يحيط بهذه التنظيمات وعلاقاتهما أيضا بأمريكا وإيران، وقد يكون هذا أيضا من أسباب التعجيل باغتيال سليماني بعد أشهر من قتل البغدادي.
ومصيره كان متوقعا من كثير من المتتبعين، بل هو نفسه صرح لأحد مقربيه بهذا المصير قريبا ، لأنه كان يعرف أن دوره انتهى. لأن أمريكا ليس لها أصدقاء أوحلفاء بل تغيرهم حسب المصلحة وحسب الغرض ، وتغيرهم اذا استنفذت منهم الغرض أو أصبحوا يهددون مصالحها ولو جزئيا. أما محور الممانعة ومحور المقاومة فهذا من بين المخدرات التي تقدم للمستهلك العربي او الإيراني البسيط اما في الاستراتيجية لا قيمة لهذه المسميات او اليافطات والاصباغ الملونة على الشاشات وصفحات الجرائد.
اذا رجعنا شيئا ما إلى الوراء، وكيف زجت أمريكا بالعملاء العرب وغيرهم باسم المجاهدين ، لكي تضرب غريمها السابق الإتحاد السوفياتي تحت الحزام وتنسف قوته ، وهذا كان الشرارة الأولى لإنهيار الإقتصاد والنفوذ السوفياتي مما أدى إلى سقوطه بالكامل وتقسيم دوله حينها. ولما انتهى غرض أمريكا من ” المجاهدين” وحققت أغراضها وتحولت التنظيمات من حليف إلى عدو ، جاءت أمريكا بكل قوتها وسحقتهم. وكأن التاريخ يعيد نفسه وإن بأسماء مختلفة وسيناريوهات محبوكة بألوان أخرى وتفاصيل جديدة.
ترامب بالقتل يصنع مجده
فعلى بعد ايام من عملية استخباراتية دقيقة استطاعت القوات الامريكية القضاء على أبي بكر البغدادي زعيم داعش. استطاعت هذه المرة وفي عملية لا زالت كل خيوطها ام تكشف بعد باغتيال الرجل الايراني الخطير الذي يتزعم فيلق بدر هذه القوة الضاربة خارج الحدود الايرانية والمتسبب في عدة جرائم ضد الشعب السوري والعراقي واللبناني واليمني..
أغلب التحليلات رأت في الأمر مجازفة “ترامبية” ” رعناء غير محسوبة العواقب، وخطأ استراتيحي كبير يتسم بالتسرع وعدم الوعي بردات الفعل التي ربما تكون أقوى وبالتالي سيؤدي تهور الطرفين إلى نشوب حرب تجر المنطقة الى المجهول.
لكن الثعلب كان يعرف جيدا ماذا يريد ، ويعرف خصمه أيضا ولهذا كتب تدوينته المشهورة ” لم تنتصر أبدا إيران في حرب ولم تخسر أبدا أية مفاوضات” في إشارة واضحة على دراسته لخصمه جيدا ولردات فعله. فعلا خسرت إيران الحرب مع صدام ، وخسرت فيالق بدر عندما أرادت الإطاحة بصدام، وكذا مثيلاتها في أفغانستان في محاربة طالبان ، ولكنها عندما تحالفت مع أمريكا ، جعلت دباباتها مطية للإستيلاء على العراق وسوريا ومناطق أفغانستان الشيعية.
كما أن الإدارة الأمريكية لا تُقدم على أية خطوة من هذا القبيل حتى تكون قد ضمنت تأييد العملاء بالعراق، الذين هم في الظاهر موالون لإيران، ولكنهم في الأصل جاؤوا على الدبابة الأمريكية، وقد توظفهم أمريكا للإنقلاب على إيران في أية لحظة ، وهذا يظهر جليا في هذه العملية، فرغم الغضب العام وتجيشش الشارع ولو بالقوة للخروج في جنازة مهيبة لسليماني ، ولكن ما خفي كان أعظم ، لأنه ليس مصادفة أن تقتله أمريكا على أسوار مطار بغداد. وقد كان يتحرك مؤخرا في منتهى السرية والإحتياطات الأمنية الشديدة ، حتى أنه خرج من المطار في سيارتين فقط حتى لا يثير الشكوك.
لكن المعلومات توصلت بها أمريكا مباشرة من بغداد، توحي بما أشرت إليه ، فرئيس الوزراء وحده من يعرف الضيف في هذا التوقيت بالذات. فرغم تنديده وخطاباته الظاهرة بأنه عمل إرهابي فوق أرض عراقية . وكأن ما تقوم به إيران شرعي وطبيعي ، وهو كذلك عمل إرهابي ضد الشعب العراقي وسرقة خيراته ونهب ثرواته.
والتاريخ سيكشف مدى التعاون الوطيد بين القادة الجدد للعراق وأمريكا. وقد تعتبرهم إيران “ممثليها” في العراق، وولاؤهم للولي الفقيه ليس فيه أدنى لبس. لكنها السياسة وحب السلطة ولعبة المصالح. فلولا خونة العراق ما سقط صدام. استراتيجية أمريكا أن تتفاوض مع الأعداء والخصوم في ذروة المعركة والعواصف والنيران. فقد تفاوضت مع صدام وهو في السجن ، لكنه رفض. ثم بعد ذلك تفاوضت مع كبار جنرالاته وكبار القادة البعثيين ورجال المخابرات الذين كان يعتمد عليهم صدام لمنحهم السلطة من جديد ولشكل ملائم لإستراتيجية أمريكا في المنطقة . لكنها رأت في عملاء إيران خير متعاون معها بدون قيد أو شرط ، ومنبطحون للغاية لأن لا شرعية لهم على المستوى الشعبي العام باستثناء العمق الطائفي الذي استغلوه لإرضاء أمريكا. ولأنهم بدون أمريكا لن يستمروا أسبوعا كاملا في السلطة، كما يصرح بذلك ترامب دائما لدول أخرى، ولكنه يلوح بعينيه للجهة الأخرى، تماما كما يقول الشاعر العربي :” إياك أعني واسمعي يا جارة”