إن كل المتغيرات وما تؤكده في مجال تطور العنصر البشري عبر محطاته التاريخية والزمنية، يجعل من التغيير أساس الحياة التي يعيشها أي كائن أثبت الخالق وجوده وكينونته من خلال اتصاله بالوعي، وما يسعى هذا الوعي إلى إثباته عن طريق آليات تعمل بدورها على اكتساب وتعلم ما يطور الذات البشرية، حتى تبرز حقائق عن طريق التفكر والتدبر والتعبير، كآخر محطة لولوج الماديات والعالم الخارجي.
كما أن من المسلمات خضوع هذه الماديات الخارجية التي نتحدث عنها لعملية التغيير خلال التأثير والتأثر في إطار اكتمال نضج الوعاء الفكري للكائِن البشري، حيث ينتج لنا هذا الأخير شكلا تعبيريا ينسجم مع تطور الوعي التعبيري ونضج آليات البوح والتوظيف، كصورة كاملة لمسار التطور الفكري والمعرفي لهذا الكائن، وذلك اعتمادا على لغة معينة وأفكار وكلمات مستوحاة مما يبرزه عالمه الخيالي ومحيطه الاجتماعي والبيئي والدين. إلا أنإشكاليات هذا التطور والتغيير في التكوين الفكري والعلمي والمعرفي، ومن ثم في أشكال التعبير وأنواعه داخل المجالات المختلفة، تطرح نفسها خصوصا إشكال القبول من عدمه، وما يتعرض كل ما هو جديد لانتقادات واسعة؟
إن ما نتعرض له وما يواجهنا مع كل شكل من أشكال التعبير والابتكار والإبداع اعتمادا على أنماط جديدة وأفكار تحمل متغيرات وجدانية أكثر تأملا في الصورة والمشهد الخيالي بعيد عن عالم الماديات، يجعل وضعنا هذا مع الأسف مقيدا نظرا لما ننتجه ككائنات وكذوات بشرية تساير تغير وعيها الأصل والوجودي، حيث تصبح كل تعبيراتنا مقيدة الحرية وغير مرغوبة فيها حتى مِمن كان نفسه في سابق عهده يؤمن بعنصر التطور والتغيير، وذلك كلما كان في نظر هؤلاء ( مجموعة من النقاد وغيرهم من ير النقاد. إن أي أفكار جديدة يكون في تطبيقها والتعبير عنها ظلم كبير للأفكار التي سبقتها، ولا يرى حسب اكتفائه وإشباعه الفكري بين قوسين طبعا، أن كل ما هو جديد لا يخضع لنفس نمطه وأسسه الفكري ولضوابطه، (ما هو) إلا دخيل لابد أن يحارب بأشد انتقاد ويلدغ بمعن الطوباوية والخيال الذي لا يقبله منطق الماديات، وهذا ما يحصل في شتى المجالات. ولعل ما عرفه المجال الأدبي عبر فترات تطوره لخير دليل على النزعة لانتقادية من العصر الجاهلي إلى غاية العصر الحديث الذي كثرت فيه اللدغات، وهناك من كلفته حياته دفاعا عن الفكرة المتجددة غير المقيدة (في العصر الجاهلي والإسلامي)، ناهيك عما عرفه مجال الشعر والقصة (شعر الهايكو حديثا). ولا تسلم مجالات أخرى من هذا النمط النقدي أو نزعة الأنا النقدية.
إن ارتباط مفهوم التعبير بصفة عامة باللغة، يجعل من اللغة العربية حسب النقاد وغير النقاد حجة وسببا لانتقاد كل التعبيرات الإبداعية التي تقوم على أساس المثاقفة التي تحكمها ثقافات غير الثقافة العربية الأصلية، من حيث التأثير والاستنباط والمحاكاة كنظرية ومفهوم فلسفي أدبي اجتماعي .. إلخ ، وحتى وإن بقي التوظيف اللغوي والتعبيري باللغة العربية إلا أن هذا الوليد يعتبر “لقيطا” في سرير الثقافة العربية، لأنه لم يتشكل عبر ضوابط وقواعد ومنطق ولادة الأشكال الأخرى، حتى وإن كانت ولادته في نفس البيئة والمحيط، لأن مزاوجته لبعض الثقافات الأخرى يجعل منه خارج أسوار النسب بالنسبة للثقافة العربية، وهو بذلك حكم نهائي لا يقبل أي قرينة ووسيلة تعيد فيه النظر مرة أخرى!!..
إن في اعتبار اللغة العربية أساسا لغويا وثقافيا وتعبيريا وكتابيا للإنسان العربي، لا يمكن في المقابل أن يقيد أي محاكاة كيف ما كان نوعها أوشكلها، أو انفتاح على الثقافات الأخرى بنفس روح اللغة، لأن في تطوير وإبراز أهمية لغة الضاد نفسها هو سعي لمحاكاة كل ثقافة في العالم، ومنبع لمجموعة من اللغات كالإنجليزية من حيث بعض المصطلحات. (وفي هذا الموضوع حديث كبير يشمل اللغة العربية بشكل أدق). ومن هذا المنطلق نستنتج ما يؤكد لنا أهمية التغيير، والتطور انطلاقا من الوجدان بكل تجلياته، كون الفكرة تجول بمنطق العقل والقلب واستقرارها لا يعني بتاتا أن يكون استقرارا تقليديا خاضعا لأصول معينة (ثقافية، لغوية، اجتماعية، دينية). لذلك نرى أن كل الانتقادات ضد الحركات الشبابية الجديدة بعيدة عن منطق الصواب لاعتبارين، أولهما ما خضع له كل مجال ومجال من تغيير وتطور، وثانيهما إبطال حجة وسبب أن اللغة العربية لا يمكن اعتبارها لغة المحاكاة والمثاقفة العالمية، وأن الشباب العربي لا يمتلك آليات لغة المعنى في إبداعاته وابتكاراته ومساهماته، ويمكن اعتبار أي محاكاة مهما كان منطلقها، كالتلقيح الريحي الذي تحتاجه الزهور والأشجار في عملية تثميرها، ولا مجال للحكم على كل ثمرة أنها مشوهة النوع والشكل والذوق والجمال..