هوى النشر :
**********
بالتجربة وبتحليلِ سِيَر الأدباء والكُتّاب والشعراء، فإنّ أعظم ما يُثير همّةَ الكاتب على الكتابة هو أن تجد كتاباتُه موضِعًا للنشر في مجلة أو صحيفة أو موقع أو أي منصّة أخرى معنيّةٍ بالنشر، أو على الأقل على صفحته الشخصية على حسابات التواصل الاجتماعي، حيث يجِد مجهودَه الكتابيّ يتلألأ أعلاه اسمُه ولقبُه.
وليُسمِّه مَن شاءَ أن يُسمّيَه بالرياء أو حبّ الظهور أو طلب السمعة وما إلى ذلك من أسماءَ وعباراتٍ تحلو لهم، ما داموا بائسي الحظ وكاسدي الذوق، ليس لهم من الأمر شيء سوى التقاعس.
ولكنّ الحقيقةَ أنّ الكُتّاب والأدباء والشعراء منذ أوّل عهدهم بالوجود كانوا مهتمّين بنشر بنات أفكارهم على ملأ من الناس، وبشكل أو آخر.
فكان لشعراء الجاهلية لوحات يعلّقون عليها قصائدهم، ومنه سميت ب “المعلقات”، وأسواق أدبية يعرضون فيها إبداعاتهم، من حيث تنتشر أعمالُهم وتجِد رواجًا في قبائل العرب على قدر حظها من القبول.
وكل الكتّاب والأدباء الذين نقرأ لهم اليوم قد مرّوا بهذه التجربة في مرحلة مراهقتهم الأدبية.
كانوا إذا كتبوا أحبّوا نشرَها في مجلةٍ، وإذا نشرت اهتزّوا لها فرَحًا.
كانوا أناسًا طبيعيّين يفرحون بنشر أعمالهم وبتفاعلِ القراء معها، لا يمنعهم من هذا الفرح تزهّد زائد أو شعورٌ مفرط بالدّونيّة.
وبالمناسبة، أحفظ للأديب علي الطنطاوي قصةَ نشر باكورته الأولى كما يصفها في ذكرياته. عندما وجد أول عمله منشورا وباسمه المتلألئ أعلاه عاد من مكتب المجلة وكأنما يطير في الهواء من بالغ السرور.
والقصة أحكيها عن حفظي، ولكنها كذلك. وعلّق عليها ثمّة بنصائح ثمينة ينبغي مراجعتها لكلّ كاتبٍ.
ولكل أديب في هذا الباب قصص وحكايات ودروس وعبر.
الكاتب حانَما يجد لنفسه وباسمه مقالًا منشورًا، ثمّ يخّال مدى تفاعل القراء معه، يشعر في قرارة نفسه بنشوةٍ غريبةٍ وحِلوة، يشوبها إحساسٌ بالسعادة الغامرة والأمل المتجدد على التقدّم، والنشاط المنعش على التوليد والعطاء.
الكاتب الناشئ الذي يلقى وليدةَ قريحته تحظى بالقبول للنشر لا يختلف شعوره عن مشاعر تلك الأمّ التي تُلفي ولدَها في رتبةٍ ساميةٍ لا يسمو إليها إلا القليلون من أندادِه في السنّ، فتقرّ له عيناها وتذرف له دموعًا من سرور.
إن حبَّ النشر والتطلّعَ إلى تصدّر قائمة الكُتّاب والأدباء من خيرِ ما يشجّع الكتّابَ ويرفع من معنوياتهم ويحرّك مواهبَهم الكامنة، ويهزّ طاقاتهم الإبداعية المخبوءة في دواخلهم، ويشحن بطارياتهم بوقود جديد، ويُحثّهم على التقدم إلى الأمام.
ويحِقّ لِكلّ كاتبٍ أن يسعى لنشر كتاباته وأن يتطلَّع من أجل ذلك إلى كُبرَيات المنصّات الأدبية والشعرية والإعلامية، جاهِدًا الوصول إلى مستواها، ليجد اسمه يلمع مقرونا بلقبه..!
التطلع إلى النشر رائدُ التقدّم، وسرّ النهوض، ودليل النشاط. وهو يلهم الأفكار، ويُفتّح الأذهان، ويُسلِس الألفاظ والكلمات.
الذي يكتب لينشرَه ليس كمن يكتب لينطوي به على نفسِه. فالأول يظلّ دومًا مفتوحَ الوعي، متحرّك الذهن، يقظَ القلب، حيّي الشعور، وقّادَ الذاكرة:
يتصيّد ممّا حولَه أيَّ مشهدٍ رائعٍ يُحوّله إلى فكرة،
ويلتقط من بين سطور كتابٍ يقرأه فكرةً يُحوّلها إلى كلمةٍ.
ويتلقّف خلالَ قراءتِه كلَّ كلمةٍ جزيلة، وتعبيرًا يروق له، ليُثرِيَ به ذخيرتَه اللغوية والتعبيرية.
وبذلك فهو يكتسب كلَّ يومٍ فكرةً رائعةً، أوكلمةً بليغةً، أو أسلوبًا جاذِبًا.
ولا يزال يُضيف إلى ثقافته مدَدًا مستمرًّا، ورصيدًا ثرًّا، وعطاءً لا ينفد.
ومع مرور الأيام تجتمع عنده حصيلةٌ وافرةٌ من الأفكار والآراء الغالية، وصيغ الأداء والتعبير الرائعة، لِيُوظّفها في كتاباته ويعرِضها للنشر.
فيبلغ إلى حيث لا يبلغ الآخرون.
هكذا يكون من يكتب لينشر ويُفيد نفسَه وغيرَه.
أمّا الذي لا يهمُّه النشر، ولا يتطلّع إلى تصدّر قائمةِ الكتّاب في الصحف والمجلّات، سواء تعلّل من أجل ذلك بحجّةِ التوقّي من مواضع الرياء والسمعة أم تستّر بشيء غير ذلك، فهو لا يجد حافِزًا حقيقيًّا على الكتابة، وإذا وجدَ ثمّةَ ما يُحفّزه عليها، يكتب ولكن بنفَسٍ خامدةٍ، وقلبٍ مضمحلٍّ، وربّما لا يُمدّه ذوقُه الشحيح إلا بكلماتٍ بائسةٍ، وأساليب بيانية مسترخية، ما لها من قوّة وما لها من نفوذٍ!
وعليه، فإن هوى النشر محمود وطبيعيٌّ ولا سيّما في مرحلة المراهقة الكتابيّة التي يمرّ بها أكثرُنا، وهو سنّة الكُتّاب والأدباء والشعراء منذ البداية.
نعم، قد يبلغ الكاتبُ بعد حقبةٍ طويلةٍ من الممارسة شأوًا حيث يصبح بمَغنًى عن هوى النشر، وغالبًا مّا يكون ذلك عندما يكفيه أتباعُه مؤونةَ للنشر والتوزيع والطباعة، ولكن دون الوصول إلى تلك القمة كهوفٌ وغاراتٌ ودونها خرط القتاد…!
فهل نحن فاعِلون!